هذا زمان الوسط، ما بين نهاية عالم وولادة عالم. عالم "اليسار" انهار وتفكك وتبعثر، وعالم "اليمين" فقد، في آن، الخصم والصفة: فلم يعد اليسار يساراً ولا اليمين يمينا. نحن نعيش اليوم في الوسط، في حالة وسط: موازين قوى "العالم القديم" تبدلت، وموازين القوى الجديدة في طور التكوين. مفاهيم "العالم القديم" وقوانينه ومقاييسه تزول تدريجياً، ومفاهيم "العالم الجديد" وقوانينه لم تتحدد بعد بوضوح. "انها نهاية التاريخ". بهذه العبارة أراد أحد المفكرين الاميركيين البارزين أن يلخص المرحلة التاريخية الراهنة، مرحلة ما بعد انهيار النظام الشيوعي و"انتصار" الليبرالية الديموقراطية. "انها نهاية التاريخ"، وكأن لا خصم يستطيع بعد اليوم ان ينهض ليتحدى أو ينافس أو يواجه "الغرب" المنتصر. غير أن هذا الغرب المنتصر - مع حلفائه في مناطق أخرى - أدرك انه لا يستطيع أن يحمي انتصاره ويدعمه الا بمساعدة الخصم المنهار والاقتراب منه وبناء جسور ثقة وتعاون معه. وهذا ما نشهده حالياً في العلاقة القائمة بين العالم الصناعي المتطور - بقيادة الولاياتالمتحدة - وما كان يسمى الاتحاد السوفياتي ويحمل اليوم اسم "اسرة الدول المستقلة". وقد وجد الطرفان، المهزوم والمنتصر، نفسيهما في الوسط، معاً، في هذا العالم الجديد الذي يلد على أنقاض عالم "الحرب الباردة". ونحن، في العالم العربي، جزء لا يتجزأ من هذا العالم المنقلب على نفسه الباحث عن هوية جديدة. فلا نستطيع ان نحمي انفسنا من ذيول انهيار "العالم القديم"، ولا ان نعزل انفسنا عن العالم الجديد الذي ينشأ. واذا كنا لا نستطيع التأثير على هذه التحولات الكبيرة في الساحة الدولىة، فاننا سنتأثر بها، عاجلاً او آجلاً بشكل او بآخر. وقد بدأنا فعلاً، سواء في تعاطينا مع النزاع العربي - الاسرائيلي او مع بعض النزاعات والقضايا الاخرى. وفي الوقت الذي تنتهي حقبة تاريخية مهمة من عمر البشرية، ويطل علينا تاريخ جديد، تصدر مجلة "الوسط". لماذا "الوسط"؟ ولماذا هذا الاسم بالذات؟ في الآية الكريمة: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس". وفي الحديث الشريف: "خيار الأمور أوساطها". وجاء في "لسان العرب": "فلما كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفة". وكلمة الوسط تعني ايضاً الاعتدال ورفض التطرف والمغالاة. من وحي هذه المعاني السامية كان اسم هذه المجلة التي تبدأ مسيرتها في هذا العدد. أية مجلة ستكون "الوسط" وأية اهداف ستسير عليها وتسعى الى تحقيقها؟ * أولاً، طموحنا وهدفنا أن تكون "الوسط" شاهداً واعياً منفتحاً على ما يجري في منطقتنا والعالم. ولاداء هذا الدور ستعتمد "الوسط" على شبكة واسعة من الصحافيين والكتاب العرب والعالميين والخبراء والمراسلين الموزعين في عدد كبير من البلدان، ومصادر الاخبار والمعلومات الخاصة. واذا كانت الشؤون السياسية هي المادة الرئيسية في هذه المجلة، الا اننا - كما سيلاحظ القراء في كل عدد - سنولي اهتماماً كبيراً للشؤون الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية وايضا لكل ما يتعلق بالثقافة والمرأة والسينما والطب والعلوم والرياضة والاكتشافات الجديدة في مجالات مختلفة. كما ان "نجوم المجتمع" والسخرية ورسوم الكاريكاتور سيكون لها موقعها في "الوسط". * ثانياً، ستحرص "الوسط" على ان تقدم لقرائها كل اسبوع مادة حية ومثيرة وممتعة، وليس فقط مادة مفيدة وغنية بالمعلومات والتحليلات الدقيقة التي يكتبها ذوو الخبرة والتجربة والاختصاص. فما نسعى اليه هو مساعدة القارئ على فهم ما يجري حوله، وعلى عدم الغرق في الكمية الهائلة من التفاصيل التي يجدها في الصحف اليومية، وعلى اكتشاف الجديد في عدد من المجالات الحيوية التي تعنيه وتهمه، بحيث يلقى في هذه المجلة ما يفتقده في مطالعته الصحف اليومية او مطبوعات اخرى، وبحيث يشعر، في الوقت نفسه، بالمتعة. وهذا امر سنحرص عليه: فالتعمق في تحليل الاحداث والتطورات، والجدية في معالجة هذه القضية او تلك، لا يؤديان بالضرورة الى كتابة المواضيع بطريقة غامضة او معقدة او جافة. فنحن نعتقد ان لا قيمة للانتاج الصحافي اذا كان مملاً او مكتوباً باسلوب غامض ولغة معقدة، ولا اهمية لأي مقال او تحليل او بحث اذا كان لا يستند الى معلومات دقيقة وصحيحة وجديدة، واذا كان نابعاً فقط من مخيلة مؤلفه. واذا كان الكثيرون من القراء العرب ينصرفون حالياً عن شراء هذه المطبوعة او تلك، فلانهم لم يعودوا يجدون فيها ما يمنحهم الفائدة والمتعة. * ثالثاً، كلمة الوسط تعني الاعتدال، ومجلة "الوسط" ستتبنى خطاً معتدلا بعيداً عن التطرف والمغالاة والمزايدات العقيمة. لكن هذه المجلة لن تكون على الحياد في ما يتعلق بالقضايا المصيرية والاساسية التي تواجه منطقتنا، بل ستحاول ان تلعب دورها - في اطارها المهني - في نصرة الحقوق العربية والاسلامية والدفاع عنها. فپ"الوسط" ستكون لها، بالطبع، مواقفها وآراؤها، لكن ليس بصورة نظرية ولا باسلوب انشائي على طريقة "المطلوب ان يحب العرب بعضهم بعضا". فهذا النوع من المقالات ممل ومزعج ولا يفيد القارئ بشيء. فمقالات الرأي الحقيقية والمفيدة هي تلك التي تقدم للقارئ معلومات دقيقة وتحليلات واعية يكتبها ذوو التجربة والاختصاص، بحيث تساعده على فهم ما يجري وتعينه على تحديد موقفه من هذه القضية او تلك. أردنا أن تكون "الوسط" مجلة عصرية وجديدة في كل شيء: في مضمونها، في مستواها، في شكلها، في حروفها، في تصميمها واخراجها. وهذا العدد الاول هو بداية علاقة نأمل ان تكون وثيقة ومتينة وصريحة ومنفتحة وطويلة بيننا وبين القراء.