أعلنت مجلة "الطريق" اللبنانية احتجابها ونشرت في عددها الأخير بياناً مقتضباً تودّع فيه قراءها والأصدقاء. هذه مجلة أخرى تتوقف عن الصدور في بيروت. وسواء كان توقفها قسراً أم طواعية، فهو مدعاة للأسى وربما لليأس والتساؤل المرير. فماذا يعني أن تغيب مجلة في عراقة "الطريق"، وفي طليعيّتها وتقدّميتها؟ قد يبرر بيان المجلة هذه الخطوة الشائكة بعض التبرير، لكنه يخفي في طياته الكثير من الكلام المضمر. ف"الطريق" كان في وسعها أن تستمر في الصدور نظراً الى طبيعتها "الرسولية" وأياً كانت كلفة هذا الصدور، وهي زهيدة أصلاً. ولكن يبدو أن أزمتها هي أزمة خطاب أكثر من كونها أزمة تمويل أو توزيع أو رواج، أزمة قضية وأزمة فكر ورؤية ومحتوى... مضت عشر سنوات على الصيغة الأخيرة للمجلة وكان ارتآها المفكّر كريم مروّة والكاتب محمد دكروب رئيس تحريرها. وكانت تلك "الصيغة" محاولة بيّنة لإحياء المجلة العريقة التي بلغت اليوم عامها الثاني والستين. واستطاعت المجلة خلال السنوات العشر الأخيرة أن تفتح صفحاتها أمام عاصفة "الحداثة الجديدة" مستوعبة الأقلام الشابة، فكراً ونقداً وإبداعاً، ومن غير أن تتخلى لحظة عن الأقلام "القديمة" أو شبه المحافظة. لكنها ظلّت تحافظ على رسالتها التطوعية التي عجزت عنها معظم المجلات. انها المجلة الوحيدة التي تنشر المقالات والأبحاث مجاناً، ولم يكن أحد من الكتّاب أصلاً يطالبها بأي أجر. فمن كان ينشر فيها فإنما ينشر بغية المساهمة في "مشروعها" الذي ظلّ صامداً بُعيد سقوط "الايديولوجيا" كما يُقال، وعقب انهيار المنظومة الشيوعية في العالم وانتشار ظاهرة "العولمة" و"نهاية التاريخ"... هكذا ظلّت المجلة تقاوم ظروفها الصعبة، منتصرة عليها ولو ب"شق النفس" بحسب التعبير الشعبي، غير آبهة لأي ربح، فهمّها الاستمرار وجمع فلول اليسار العربيّ وبلورة "خطابها" السياسي والفكري وتجديده ما أمكن. وإن كانت "الطريق" ذات توجه عربي واضح، فهي لبنانية في المعنى الثقافي، أي انها رمز من رموز لبنان الثقافية مثلها مثل مجلة "شعر" ومجلة "الآداب" وسواهما. وقد ساهمت بدورها في صنع "الحالة" اللبنانية التي تعني في ما تعني الديموقراطية والتنوع والتعدد والانفتاح. ومثلما أدت منذ تأسيسها دوراً طليعياً في المعترك اللبناني إبان الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أدت كذلك دوراً تنويرياً في المرحلة التي ساد بيروت تيار ظلاميّ سقط في تجاويفه الشهيدان الكبيران حسين مروة ومهدي عامل، وكلاهما من وجوه "الطريق" البارزة ومن أعلام الثقافة الحديثة. في تلك الفترة كان القارئ المعتدل والطليعي والتقدمي، وربما العادي، يحتاج الى مجلة "الطريق" والى مقالاتها والأبحاث التي تفرّدت بها وهي دارت حول تحديث الفكر الماركسي والاشتراكي وحول التحديات التي تواجه اليسار وحركات التغيير في العالم، اضافة الى شؤون الأدب والفن... وكانت مجلة "الطريق" واسعة الأفق، ترحب بأي وجهة نظر وبأي سجال حقيقي، سياسياً وفكرياً. وعندما تسلّم رئاسة تحريرها الناقد محمد دكروب ازدادت انفتاحاً على "الآخر" وشرّعت صفحاتها أكثر فأكثر أمام الحوار والنقاش وأمام الأقلام الشابة والجديدة وأمام القضايا الجريئة التي لم تكن تعيرها اهتماماً في السابق. وعلى رغم احتوائها بعض المقالات الايديولوجة "المضجرة" والتي تخطّاها الزمن فهي كانت تفرد صفحات للكثير من المقالات الحداثية، ساعية الى ارضاء قرائها الذين يختلفون في الثقافة والعمر والذائقة. فكانت في آن واحد مجلة حديثة و"محافظة" في المعنى الايديولوجي. تواكب حركة العصر وتحافظ على الثوابت والأصول. في مستهل العدد الأخير تعتذر "الطريق" عن تأخر هذا العدد عن الصدور نحو شهرين. ولو لم تشر المجلة الى هذا التأخر لما كان شعر به الكثير من قرائها. فالقارئ - على ما أظن - لا ينتظرها على أحرّ من الجمر، ولا يفتقدها إذا تأخرت شهراً أو شهرين، لكنه سيقبل عليها حتماً حين يجدها أو يشتريها. ويمكن استثناء فئة في لبنان والعالم العربي تنتظرها دورياً وتتابع مقالاتها. فهذه المجلة تتميز عن سواها انها مجلة كتّاب وباحثين وأدباء، ومنهم تستمد قوتها وفرادتها، حتى وإن كان بعض هؤلاء ملتزمين سياسياً وفكرياً ويملكون وجهة نظر خاصة الى التاريخ والسياسة والواقع... يقول بيان "الطريق" ان المجلة ستحتجب فترة على أن تعود من ثم في حلة جديدة وصيغة جديدة. لكن البيان لا يحدد بوضوح أسباب الاحتجاب وإن لم تكن خافية على أحد. فهو يكتفي بالإشارة الى أن المجلة تحتاج الى الاجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع الجديد في العالم العربي والعالم أجمع، وتحتاج كذلك الى الاقتراب من هموم الأجيال الشابة وطموحاتها. يكاد يفصح مثل هذا الكلام ان المجلة شاخت بعض الشيخوخة وأنها لم يبق أمامها سوى أن تتجدد وأن تعيد تأسيس نفسها منفتحة على "لغة" العصر وأبعاده الجديدة ومعطياته. وقد أصاب البيان بهذا الاعتراف الذي تُعرض عنه مجلات كثيرة رافضة الاعتراف بشيخوختها. علماً أن المجلة صنو الانسان، تولد وتشب وتشيخ. وقد يكون الاعتراف بشيخوختها أصعب من إعلان ولادتها. فالشيخوخة تعني الاقتراب من الموت، والتوقف عند الشيخوخة أفضل من الموت المعلن. لكنّ الاحتجاب المؤقت بات يعني في لبنان الغياب المؤجل. هكذا علّمتنا التجارب الكثيرة. ولكن ما نأمله حقاً هو أن تصلنا ذات يوم مجلة "الطريق" في الحلّة الجديدة التي وعد القراء بها. ترى متى سيأتي هذا اليوم؟