ألححنا على يحيى حقي 87 سنة ان يتحدث عن لغته في القصة والمقال، وجذورها في التراث العربي والاسلامي، وعلاقتها بايقاع الحياة الشعبية المصرية، ثم بثقافته التي حصلها في الغرب. فقال: "ياه… هذا موضوع قديم، كتبت فيه كثيراً". يحيى حقي من اكثر المصريين كتابة عن تجربته الفنية، ففي "أشجان عضو منتسب" 1974 قال "كان علينا في فن القصة ان نفك مخالب شيخ عنيد شحيح، حريص على ما له اشد الحرص، تشتد قبضته على اسلوب المقامات، اسلوب الوعظ والارشاد، والخطابة، اسلوب الزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات، اسلوب المقدمات الطويلة والخواتيم الرامية الى مصمصة الشفاة، اسلوب الواوات والفاءات والثمات والمعذلكات والرعمذلكات واللاجرمات والبيدأنات واللاسيمات، اسلوب الحدوتة التي لا يقصد بها الا التسلية. كنا نريد ان ننتزع من قبضة هذا الشيخ اسلوبا يصلح للقصة الحديثة كما وردت لنا من اوروبا، شرقها وغربها ولا اتحول عن اعتقادي بأن كل تطور ادبي هو في المقام الاول تطور اسلوب. كان علينا ان نضرب على يد من يحكي لنا قضية جنائية، ويقول اكتبوها فهي قصة جميلة حقا، ونقول له: "القصة شيء مختلف اشد الاختلاف" وأضاف: "وقد داعبتنا اللغة العامية اول الامر فهممنا ان نجري اليها - لا هربا من مشقة الفصحى فحسب - بل لاننا كنا نتلهف ان يكون الادب صادق التعبير عن المجتمع، ولكننا تحولنا - كأنما بدافع غريزي - الى الفصحى، لأنها هي الاقدر على بلوغ المستويات الرفيعة، على ربط الماضي بالحاضر، على توحيد الامة العربية. ومن الممتع ان ندرس كيف ساير تأثير العروبة على الادب المصري تأثيرها على سياستنا القومية". عجينة لغة يحيى حقي تكونت من عناصر شرحها في سيرته الذاتية القصيرة "أشجان عضو منتسب"، وهي: التراث الاسلامي والشعر العربي الكلاسيكي، والبيئة الشعبية المصرية، وأدب زمانه العربي والانكليزي، ثم مشاهداته والتحاماته بثقافات اخرى عبر عمله الديبلوماسي في جدة واسطنبول وأنقرة وروما وبرلين وباريس وليبيا. ويقدّر الادباء المصريون اثر اعمال يحيى حقي على القصة المصرية المعاصرة، لذا تكثر الاحتفالات به وبأعماله في مناسبات متعددة. بهاء طاهر "الوسط" سألت قصاصين ونقاداً مصريين عن لغة يحيى حقي ومدى تأثيرها فيهم فأشار بهاء طاهر الى ان لغة حقي كانت تجسيداً للغة الادبية التي يعني فيه اللفظ ما يعنيه، بمعنى ان اللغة السابقة على يحيى حقي كانت لغة مترهلة تغلب عليها الانشائية او البلاغة العتيقة الحافلة بالمترادفات او الاوصاف التي لا تعني شيئا، فلاول مرة في ادبنا الحديث تجد كتابة بلغة فصحى راقية يعني اللفظ فيها ما يعنيه ويدل على ما يشير اليه. ولو حاولت ان ارجع في لغة الادب العربي الى شيء قريب من ذلك لما وجدت غير لغة ابن المقفع، اذ كانت اللغة عنده لغة وظيفية، ويمتاز يحيى حقي عن ابن المقفع بان لغة ابن المقفع وان تكن دقيقة جدا، الا انها تتسم بشيء من الجفاف، فيما لغة يحيى حقي دقيقة وعلمية ومليئة بالحياة، الحياة التي تنجم عن تطعيمه اللغة اما بعبارات او الفاظ عامية يمكن ان ترجع لهذا مقالاته في "عشق الكلمة" عن استخدام العامية في الادب. او من اسلوب خاص لا يمكن تحديده بالكلمات، يستطيع ان يرطب جفاف اي موضوع مهما بلغت جديته ويجعله حياً ومقرباً الى القلب، ويمكن ان نضرب مثلاً باستخدامه الجمل الاستفهامية او بقطع سياق السرد واستخدام حوار داخلي داخل لغة السرد نفسها وغير ذلك من الاساليب. من هنا اعتقد ان لغة يحيى حقي هي بداية الحداثة بمعناها الايجابي في الادب المصري الحديث، واعتقد ان جيل الستينات هم التلامذة الطبيعيون ليحيى حقي في مجال استخدام اللغة، حيث ابتعدت لغتهم عن البلاغة التقليدية واصبح لكل كاتب لغته وبلاغته الخاصة به. إبراهيم أصلان ويعتقد ابراهيم أصلان ان يحيى حقي من اكثر الكتاب العرب تعرضا لمشكلات الكتابة الابداعية، ويصفه بأنه صاحب اهم ملاحظات يمكن ان نجدها لدى مبدع، وملاحظاته تستدعي التوقف والتأمل والافادة. ويرى اصلان ان علاقة يحيى حقي باللغة مميزة تماماً. والشيء المدهش فيها انه على الرغم من غنى نثره فان لغته غضة ومليئة بالعصارة وليست لغة تجريدية، انها لغة خالية من اي شبهة بالتجريد، وهي على رغم غناها، فيها سعي حقيقي نحو دفة التعبير. ترتب على هذا ان يحيى حقي بالفعل من اكثر الكتاب الذين عملوا على تخليص النثر الفني من ترهله، ومن حذلقاته الفكرية او الوجدانية من خلال مذاق خاص جداً، وعلى رغم ان نثره كثيف العبارة وعض ومتميز الا انه لا يخضع الا لايقاع القلب. سعي لغوي من هذا النوع يترتب عليه دائماً تلخيص اللغة من الترهلات المؤسفة. ويحيى حقي فعل هذا وقام به منذ وقت مبكر جداً. وقد يرجع هذا الانجاز الى قدرته الفائقة على الملاحظة، فهو كتب عن البشر والحيوان والاشياء بقدرة بالغة على الملاحظة والتأمل، ولأنه ارتبط بمفردات الواقع الحقيقية كمتأمل. كتب حقي عن اولاد البلد وكل ما هو شعبي. من فرط حبه وحساسيته عاين اولاد البلد، وتذوقهم، وكان كاتبهم، وان كان الانصاف يقتضينا القول ان حقى طمح ان يكون كاتبهم، ولكنه لم يطمح ان يكون واحداً منهم، هي علاقة الذواقة الكبير بالمفردات الشعبية المتناثرة حوله، كان يستطعم اولاد البلد، ويعبر عنهم تعبير الخبير المستمع وليس تعبير ابن هذه البيئة نفسها. نادراً ما نجد كاتب قصة او رواية له ملاحظة جديرة بأن نتوقف امامها طويلاً، والوحيد الذي ساق ملاحظات التعبير والكتابة هو يحيى حقي، واعتقد ان تأثيره في الاساس هو تأثير المفهوم الذي عمل على اشاعته، اكثر من تأثير عمله الادبي، مثل مفهومه: "السعي نحو دقة التعبير"، وهو ساق ملاحظاته في وقت كان استهلاك اي نص ادبي يفوق في طوله النص نفسه، فدعا لاحكام الكتابة او البداية من لحظة الفعل المباشرة في زمن مقدمات القصص الاطول من القصص نفسها. واثرت في الاجيال اللاحقة دعوة يحيى حقي لتخليص النثر الفني مما يصيبه غالباً من ترهل او تفاصح عادة ما يكون ضد النص نفسه، هذه الدعاوى كان لها تأثير مهم اكبر من النصوص نفسها، وهي قليلة بالرغم من تقدم بعضها وما زالت حتى الآن تقرأ بالحماسة القديمة نفسها. هذه الدعاوى لم تكن منفصلة عن تطبيقاته العملية في الكتابة، وهذا الامر اعطاها مصداقيتها. ولو تطلعنا الى التربية النموذجية للفنان سنجد يحيى حقي في الصدارة لأنه صاحب عينين مدربتين تشكيلياً تدريباً راقياً جداً، وصاحب اذنين تجيدان الاستماع والانصات، وهو على وجه الاجمال صاحب وجدان غني جداً، كان طول وقته مشغولاً بهموم الكتابة ومشكلاتها، وفي دردشة معه عبرت عن اعتقادي بان انشغاله البالغ بهذه الهموم هو صاحب التأثير الاساسي في ندرة اعماله او قلتها، لقد تأثرت بالمفاهيم التي نادى بها يحيى حقي، لأنها تتوافق مع كل الدعاوى الحقيقية لعملية الابداع، وبالنسبة للغة هو صاحب طابع شخصي تماماً، فمن الصعب الاستفادة الاّ من مفاهيمه، لأن لغته شخصية الى حد كبير، ولغته نتيجة تكوين خاص، واللغة الشخصية دائماً لا يمكن استلهامها الا اذا كنت ستلتهم مفردات الكاتب وعالمه، وهذا غير ممكن وهو ليس مسعاي، واخيراً يحيى حقي دعا لمبادئ اعتقد اننا سنلمسها في كل فن جيد وعمل حقيقي. عبده جبير ويؤكد عبده جبير انه اذا كان هناك تقدير حقيقي للغة الادباء العرب، من ناحية جمالها. ودقتها، وصدقها، فان يحيى حقي سيفوز من دون شك بالمرتبة الاولى، ويدل على ذلك، بالتالي: هي لغة غير انشائية ولا لفظية انما تتبع المعنى ولا تحيد عنه، وان كانت ذات ظلال. هي ايضا لغة دقيقة محددة ليس فيها زيادة ولا نقصان. لغة مفرداتها منتقاة بعناية، لا تعتمد الحشو والغريب، كما لا تعتمد العامي والمحلي الا اذا كانت هناك ضرورة. لغة لها ايقاع خاص ينبع من روح يحيى حقي الخفيفة الظل، ونظرته المتزنة، وذوقه الجمالي الرفيع الذي نماه من ثقافته الفنية واللغوية والحضارية، فقد كان حقي اكثر الادباء اتصالا بالفنون الجميلة، والسينما، ولم تقتصر ثقافته على الادب. لغة قادرة ذات ظلال وايماءات ونغم وجرس، لذلك فانه حين يكتب تحس وكأنه يرسم صوراً ذات تكوين متماسك وبناء محكم. هذا علاوة على صدق لغة يحيى حقي وقربها من الشريحة الاعرض من جمهور القراء. لذلك فأنني بالتأكيد تعلمت على جدية اهم شيء يمكن ان يتعلمه كاتب وهو كيف واين، ومتى تصنع الكلمة المضبوطة في مكانها الصحيح. واعتقد ايضا انه اثّر على كل الاجيال بعده من الادباء، وبالذات القصاصين، من هذه الناحية، وتأثيره في هذا عظيم للغاية. فؤاد دوارة الناقد فؤاد دوارة اشرف على اصدار الاعمال الكاملة ليحيى حقي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، راجعها وصنفها وجمع اليها كتابات متناثرة ليحيى حقي، وبلغت الاصدارات حتى الآن 28 كتاباً، احدثها "كناسة الدكان". يحدد فؤاد دوارة دعوة يحيى حقي عائدا الى سيرته الذاتية "اشجان عضو منتسب" حيث يقول حقي: "قد ارضى ان تغفل جميع قصصي وكتاباتي ولكني سأحزن اشد الحزن اذا لم يلتفت احد الى دعوتي للتحديد اللغوي في محاضرتي "حاجتنا الى اسلوب جديد" وفي كثير من كتاباتي الاخرى" يقول فؤاد دوارة: لو رجعنا الى هذه المحاضرة الهامة التي القاها يحيى حقي في جامعة دمشق سنة 1959 لوجدناه يقول فيها "اننا - في ما اعتقد - لن نصل الى انتاج ادب نجد فيه نحن انفسنا اولاً، ومقنعاً لنا، ثم يصلح ثانيا للترجمة والنقل الى الثقافة الدولية، الا اذا تخلصنا مما نحس به في اساليبنا من عيبين كبيرين: الميوعة والسطحية، لنعتنق بدلاً منهما التحدي او الحتمية والعمق. اما اشتراط صفة الصدق لهذا الادب فأمر مسلم به". الاسلوب الذي يطالب به يحيى حقي اسلوب علمي يتميز بطلب الحتمية والدقة والوضوح. لأن اللفظ عنده وعاء الفكر، فلا وضوح لفكر الا بهذا الاسلوب العلمي الدقيق، وقارئ كتابات يحيى حقي يلمس بوضوح مدى حرصه على تطبيق هذه المبادئ في قصصه ورواياته ونقده ومقالاته الادبية. فهو قد يكتب الجملة الواحدة ثلاثين او اربعين مرة، قبل ان يصل الى اللفظ المناسب الذي يفرضه المعنى. بهذا التحديد والتدقيق في اختيار اللفظة المناسبة للمعنى لا يقصد يحيى حقي الاسلوب التلغرافي الذي دعا اليه سلامة موسى، فهذا الاسلوب المختزل قد يناسب لغة الصحافة، لكن يحيى حقي يتحدث عن الادب. ومن شروط الاسلوب الادبي الاساسية الجمال والموسيقية، وهو ما لا يمكن ان يتحقق الا مع الجهد والمعاناة والصنعة. ولكنه يشترط مع ذلك كله ان لا يبدو على الكلام اثر العرق والجهد، بل لا بد ان يظهر الاسلوب بسيطا، بل شديد البساطة، فعنده ان عازف العود الماهر هو الذي لا يسمعك خبطة الريشة، كذلك الكاتب الصّناع يجب الا يسمع قارئيه صرير القلم.