يشكل ابن المقفع علامة فارقة في تاريخ النثر العربي في الشكل والمضمون، ففي الشكل عمل على تخفُّف النثر من المحمولات البلاغية التي طالما أثقلت كاهله في العصور السابقة، ولم يتتبع وحشيّ الكلام وغريبه بل جنح نحو السهولة في المفردات والتراكيب، فاتسعت معه الجملة ولانت وفتحت صدرها للمعاني الجديدة التي اتى بها التفاعل الحضاري في العصر العباسي الأول. وفي المضمون اجترح ابن المقفع مجالاً جديداً للنثر، وراد به الحقل السياسي الاجتماعي متناولاً علاقات الحاكم بالمحكوم. ولعل هذا المركب الخطر الذي ركبه الكاتب في عصر أُخذ فيه الناس بالشك والشبهة هو الذي رسم نهايته الفاجعة. يشير الباحث احمد علبي علبي في مقدمة كتابه "ابن المقفع الكاتب والمترجم والمصلح" دار الفارابي الى انه ضم في الكتاب ما أُتيح له كتابته من دراسات حول ابن المقفع بعد تدقيقها وتنقيحها، وقد دفعه الى ذلك افتقار المكتبة العربية الى مثل هذه الدراسات. وهو يتناول فيها حياة الكاتب وأدبه على مدى ثمانية فصول، يمهد لكل منها بفقرة تتناسب مع موضوع الفصل، والفقرات مقتبسة من كتّاب قدماء او معاصرين كانت لهم إسهاماتهم في دراسة العصر والكاتب. وانسجاماً مع المنطق الأكاديمي في الدراسة، يدخل علبي على الكاتب من بوابة العصر، فإذا نحن في مرحلة ينتقل فيها الحكم من الأمويين الى العباسيين بانقلاب دامٍ، ويطغى فيها القتل بالشبهة والرهبة، ويُعمل فيها ابو مسلم الخراساني السيف في الرقاب لمجرّد الشك او الشبهة او الرغبة في التخلص من المنافسين. ومن وحي هذه الظروف يستمد ابن المقفع جوهر كتاباته المختلفة. اما ما يذكره المؤرخون من انفتاح حضاري عرفه العصر العباسي في تطوره اللاحق فيُقصره علبي على الحكام، ويذهب الى ان نعمهُ لم تشمل عامة الناس وهو ما يفسِّر ظهور الحركات الاجتماعية والثورات، ولعله يلجأ الى هذا التفسير من منظور الصراع الطبقي الذي جاءت به الماركسية. وندخل مع علبي على ابن المقفع في الفصل الثاني من كتابه بأسلوب اعتمده في الفصل الأول، وفيه يجمع بين التصوير والتقرير، يستحضر الماضي بالصور فتخاله يتكلم على الحاضر، ويستخدم لغة ادبية فيقرن متعة الشكل بفائدة المضمون، وهذا عهدناه لدى طه حسين في مؤلفاته النقدية. أليس احمد علبي احد دارسيه؟ وإذا ما تخطينا الشكل الى المضمون تطالعنا سيرة يكتنفها شيء من الضباب في سبب اللقب وتاريخ الميلاد في قرية "جور" الفارسية وتاريخ انتقاله منها الى البصرة. غير ان علبي يميل الى الأخذ برواية البلاذري التي تذهب الى ان ولادته في حوالى العام 80ه. ويشير الى ان صاحبنا عاش في البصرة حيث يختم الفكر الإسلامي بتيارات ثقافية عريقة، وجمع بين العلم الفارسي والأسلوب العربي السليم، وتردد على حلقات الأدباء وكتب لآل هبيرة. وفي مقتل ابن المقفع يجزم علبي استناداً الى المصادر التاريخية ان سفيان بن معاوية والي البصرة هو قاتله. وبعد ان يستعرض الروايات المختلفة لطريقة القتل، يستبعد منها ما لا يقبله العقل ويميل الى رواية رميه في بئر او إدخاله الحمام. وإذ يورد الآراء المختلفة في سبب القتل ويفنّدها يخلص الى القول: "الرأي عندنا ان الموقف الإصلاحي الذي اضطلع به ابن المقفع في حياته هو سبب مصرعه". ص 34 مرجّحاً حصول ذلك سنة 142ه. وهكذا، يتبين ان علبي يعزو القتل الى سبب سياسي مخالفاً الذين يقولون بالسبب العقيدي. وبعد مقدمات تاريخية عن الكتابة الديوانية يسوقها الباحث في الفصل الثالث من كتابه، يتبين منها عزوف العرب عنها بادئ الأمر باعتبارها من صناعات الموالي، وأهمية الكاتب في الحياة السياسية، وأهمية الكتابة الديوانية باعتبارها عملاً إدارياً لا ينهض به سوى الأكفياء، يرسم صورة نموذجية للكاتب، وبالتالي لابن المقفع الذي يجمع العدة الفكرية الى المناقبية، وينفق على صحبه ومعارفه بسخاء، ويتقن الديبلوماسية. ولا تفوته الإشارة الى الصداقة التي ربطت بين ابن المقفع وعبدالحميد الكاتب، الشريك الآخر في تطوير النثر العربي. ويتخذ علبي موقفاً دفاعياً من ابن المقفع في الفصل الرابع نافياً عنه تهمتي الشعوبية والزندقة. ففي الأولى يرى انه ينبغي النظر الى شعوبية ابن المقفع من زاوية سياسية، فالتهمة كانت تلصق بالبعض لتشويه سيرتهم بشكل انتهازي، ويستند الى اخلاق الرجل وانتمائه الطبقي ودوره كمصلح اجتماعي لينفي عنه التهمة، ويصنّفه معارضاً من داخل النظام. وفي التهمة الثانية، وبعد ان يحدد معنى الزندقة لدى الفرس والإسلام، يرى انها "تهمة كانت تتوسل بها السلطة كلّما شعرت ان مفكراً اخذ يفتح عينيه اكثر مما ينبغي له ان يفتحهما" ويتضح ان التهمتين داخلتهما السياسة، وهو امر تتقنه السلطة على مر التاريخ، تختلف التهم لكن المضمون الواحد سياسي. وإذ يفند علبي الدلائل التي سبقت على اتهام ابن المقفع بالزندقة، ويعارض الروايات المختلفة بعضها ببعض، يخلص الى ما ذهب إليه سابقاً من ان الزندقة لم تكن سبب مصرعه بل ان مصرعه سياسي. ولئن كانت الفصول الثاني والثالث والرابع عالجت حياة ابن المقفع، فإن الفصول الأربعة الأخيرة قاربت ادبه دراسات ومختارات. ففي الخامس يتناول الباحث المؤلفات مميزاً بين ما هو خالص النسبة الى الكاتب "كرسالة الصحابة"، وبين كتبه الأخرى التي تترجح بين الاقتباس والترجمة، وبعضها مشكوك في نسبته الى صاحبه. ويتناول مترجماته التي تنوعت بين الحكمة والتاريخ والحقوق والدين والفلسفة. ويشير الى ان ابن المقفع الشاعر المقل يجيئه من الشعر ما لا يرضى، والذي يرضاه لا يجيئه. ولأن "رسالة الصحابة" صريحة النسب الى صاحبها، يفرد لها علبي الفصل السادس من كتابه، فيعرض مضمونها من دون اقحام اية آراء او تعليقات، ويعتبرها رسالة اصلاحية خلافاً لما ذهب إليه طه حسين من ثوريتها، لكنه سرعان ما يتدارك هذا الحكم حين يربط الرسالة بالظروف التي كتبت فيها، معتبراً ان وضعها في مثل تلك الظروف جراءة لأن صاحبها "يمشي في سبيل غير مطروق". ولعل الحكم على النصوص في ضوء الظروف التي أنتجتها هو الى العلمية اقرب، لا سيما ان الرسالة "وافت رجلاً صعباً، شديد المراس، لا يمكن ان يكون للشورى الحقة سبيل الى نفسه ومزاجه". ص127 على حد تعبير الباحث. ولا يستوفي الكلام على ابن المقفع حقّه ما لم يعرّج على "كليلة ودمنة"، وهو ما فعله علبي في السابع من فصوله، متوقفاً عند اصل الكتاب وأبوابه وغايته، وهو في الحديث عن الأصل يُجمل ويفصّل، يجمل حين يرى انه هندي نُقل الى الفارسية فالعربية، ويفصّل حين يوزع ابواب الكتاب الحادية والعشرين الى تسعة ابواب اثبت البحث العلمي هنديتها، وثلاثة ابواب رجّح هنديتها، وثلاثة رجح فارسيتها، وستة ابواب عربية. وهكذا، يتبين ان الكتاب تعرّض للإضافة والتعديل عبر العصور الأمر الذي يثبته اختلاف عدد الأبواب ومواقعها باختلاف النسخ. ويشير علبي الى ان اول طبعة للكتاب بالعربية صدرت في باريس عام 1816 بإشراف سلفستر دو ساسي. اما الطبعتان اللتان يركن إليهما علمياً فهما طبعة عزام وطبعة شيخو. والغاية من الكتاب تتعدى الظاهر الماثل في علاقات بين الحيوانات الى ما هو أجلّ وأخطر. فحيوانات الكتاب مخلوقات عاقلة، وغاية ابن المقفع سياسية اخلاقية، ولذلك تتوزع القيم الأخلاقية فيه بين اخلاقية السلطة وأخلاقية الحياة اليومية، على ما ذهب الباحث. فالكتاب دعوة ادبية فنية الى المجتمع الفاضل بعيداً من التنظير والوعظ والتبشير. اما اسلوب ابن المقفع السهل الممتنع، المتخفف من محمولات البلاغة والإنشاء، فيتناوله علبي استناداً الى "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" لوثوقه بهما. وهنا، نتساءل: لماذا لم يستند الى "رسالة الصحابة" التي اعتبرها خالصة النسب الى صاحبها فيما المؤلفات الأخرى مدخولة في نسبها على حد رأيه؟ في الثامن من فصوله يورد علبي مختارات من نتاج ابن المقفع، وبهذا يكتمل عمله، فيزوّد المكتبة العربية بدراسة تفتقر إليها. غير انه لا بد في الختام من ملاحظة شكلية - منهجية وهي ان ثمة بوناً بين عنوان الكتاب ومضمونه، ففيما يوحي العنوان ان الباحث سيتناول الكاتب والمترجم والمصلح يأتي المحتوى ليتناول حياة ابن المقفع وأدبه. وبالتالي، أليس من الأفضل تعديل العنوان؟