الحرب بين الحكومة الايطالية والمافيا بدأت منذ سنوات عدة وحصدت معها مئات الضحايا بينهم كان القاضي جيوفاني فالكوني الذي اشتهر بعناده وبأسه ضد رجال العصابات المنظمة، حيث استطاع تحويل نتائج هذه الحرب لصالح الدولة. منذ اشهر عدة عينت وزارة العدل القاضية ليليان فيرارو مكان رئيسها فالكوني، الامر الذي اثار استهجان بعض المسؤولين اذ انها المرة الاولى التي تصل فيها امرأة الى هذا المركز الذي يعد حالياً الاخطر في ايطاليا. التحقيق الخاص الآتي الذي اشترت "الوسط" حقوق نشره بالعربية من وكالة "وورلد نيوز لينك" يعطي صورة واضحة عن هذه المرأة المناهضة للمافيا. تحتل القاضية ليليانا فيرارو المكتب نفسه الذي كان يحتله سلفها المشهور المغدور القاضي جيوفاني فالكوني المناهض العنيد للمافيا. وهي تجلس على الطاولة ذاتها وعلى الكرسي الجلدي الاسود الدوار ذاته في الطابق الثاني من مبنى وزارة العدل في روما حيث تتولى منصب اكبر قضاة التحري الايطاليين في امر الجريمة المنظمة. وهذه مهمة ليست باليسيرة فجيوفاني فالكوني، الذي اغتالته المافيا قبل ستة اشهر في الثالث والعشرين من أيار مايو الماضي تحديداً - بتفجيرها احدى السيارات في طريقه - كان مشهوداً له في العالم اجمع بالوقفة الجسورة في مواجهة المافيا، في حين اصبح داخل ايطاليا اشبه ببطل شعبي. اما "فيرارو" 48 عاماً فهي شخصية مغمورة نسبياً. وقد عملت طيلة ثمانية عشر شهراً نائبة لفالكوني حينما كان مديراً للشؤون الجنائية في وزارة العدل، وهكذا اصبحت بعد مصرعه خليفته الطبيعية، واختفت من جدران مكتبه القديم تلك الدروع التذكارية التي كانت اهدته اياها شتى قوات الشرطة من اركان العالم اجمع. وحل محلها تذكار خاص "بليليانا فيرارو" يتمثل في صورة فوتوغرافية ملونة تجمع بينها وبين قاضي التحري الصريع... وهي تبدو هادئة وعلى سجيتها وقد علت وجهها ابتسامة مشرقة، دون ان تبالي بحقيقة انها تعيش تحت ظل زميلها السابق، وهي تقول في هذا الصدد: "حين اجلس وراء هذا المكتب تغمرني عاطفة جياشة، كما لو ان جيوفاني معي في هذا المكان". البداية و"ليليانا" بدأت العمل في السلك القضائي في العام 1970 في شمال ايطاليا على اثر نيلها اجازة القانون من جامعة نابولي. على ان مقدراتها سرعان ما استرعت الانتباه فجرى استدعاؤها الى روما حيث كرست طاقاتها لمكافحة الخطر الاجرامي الرئيسي لحقبة السبعينات في ايطاليا والذي تمثل في بروز مجموعة الالوية الحمراء اليسارية المتطرفة وما صاحبها من عمليات ارهابية. وحين انطوت صفحة تلك الحرب انصب اهتمام "ليليانا" على الجريمة المنظمة، فعملت مع "جيوفاني فالكوني" ومع "باولو بورسيلينو"، قاضي مكافحة المافيا المرموق الآخر الذي اغتيل في تموز يوليو من هذا العام... بيد انها - على العكس من زميليها ذائعي الصيت - ظلت دائماً وراء الكواليس حيث شملت مناصبها السابقة ادارة احد السجون الحصينة، وانشاء مراكز معلومات تهتم بمكافحة المافيا فضلاً عن تولي الجوانب العملية للعديد من محاكمات المافيا. وفيما كان "فالكوني" و"بورسيلينو" يقودان هيئة قضاة التحري المناهضين للمافيا خلال منتصف الثمانينات، ظلت "ليليانا" في روما توفر الدعم الذي لا غنى عنه قط، وهي تقول هنا في مقابلة خاصة معها: "كانت مهمتي هي امداد زملائي في الجبهة بالوسائل اللازمة التي تكفل لهم القيام بمهامهم... وقد شملت تلك المهمة محاولة توفير اغراض شتى: من الكمبيوترات والسيارات المصفحة الى المكاتب واجهزة الهاتف التي لا يمكن التنصت اليها، فضلاً عن محاولة توفير الورق لماكينات تصوير الوثائق". وقد تبدو مثل هذه المهام رتيبة تماماً في نظر آخرين، الا ان ذلك الدور كان حيوياً في وقت كان التزام الحكومة الايطالية بمحاربة الجريمة المنظمة بامتداداتها الدولية، التزاماً هشاً متردداً، وفي زمن انعدمت حتى اكثر الموارد اساسية. نواة مناهضة المافيا وعلى الرغم من الصعوبات فان "ليليانا" تذكر تلك الايام باعتبارها بين اكثر الايام متعة في حياتها العملية. فقد كانت هيئة قضاة التحري المناهضين للمافيا والتي قادها "فالكوني" و"بورسيلينو" - بعدما كان اسسها استاذهما، "انطونيوني كابينيتو" - حققت نجاحاً عظيماً من جهة النتائج والروح المعنوية. وتقول "ليليانا" هنا: "ان تلك النواة المكونة من القضاة الثلاثة والتي انضم اليها آخرون في ما بعد - اصبحت تمثل المرحلة الرئيسية في الحرب ضد المافيا. وهي تنهض دليلاً على ان التضافر يؤدي الى النجاح". اما منصبها الراهن فيحمل معه اضافات ليست مريحة مثل فريق الحرس الذي يتولى حراستها اربع وعشرين ساعة كل يوم. وقد سبق للمافيا ان اظهرت منذ وقت طويل ان القواعد القديمة في ما يتصل باحترام المرأة لم تعد سارية، وهكذا فان "ليليانا فيرارو" تقرّ بأنها تمثل هدفاً رئيسياً لتلك العصابات، كما تعترف - رداً على سؤال لها - بأنها تشعر "احياناً بالخوف... وبأن لحظات من الهلع تنتابني وتتسارع خفقات القلب... الا ان تلك اللحظات سرعان ما تمر اذ انه ينبغي عليها ان تمر". يوم في حياتها ويبدأ يوم "ليليانا" مبكراً حين يصل حرسها المسلح الى شقتها في روما ليأخذها بالسيارة الى مكتبها في وزارة العدل. وطيلة النهار تدخن "ليليانا" لفائف السجائر الصغيرة المماثلة لتلك التي كان يدخنها "فالكوني". اما الغداء فعادة ما يكون ساندويشاً تتناوله وهي على مكتبها. وقد تبلغ الساعة العاشرة او الحادية عشرة - ليلاً - قبل ان تعود الى شقتها. وحيث انها مطلقة ولا اطفال لها فانها تقضي وقت فراغها النادر تعد اطباق الطعام للاصدقاء او تستمع الى موسيقارها المفضل "فيردي"، وهي تتفادى الخروج الى الاماكن العامة لاعتبارات امنية لكنها تحب الاسترخاء عن طريق السير على الاقدام لمسافات طويلة في الجبال. اما داخل مبنى الوزارة فان اسلوبها يتسم بالبساطة وبالبعد عن الشكليات حيث انها تحاول جهدها انتهاج سياسة الباب المفتوح في الحدود التي تسمح بها "التقييدات" الامنية. وعلى الرغم من النجاحات الاخيرة التي شملت التعاون مع اجهزة الشرطة في بلدان اخرى بهدف القاء القبض على مهربي المخدرات وعلى وكلائهم الضالعين في غسل اموالها، فان المناخ ما زال شرساً بالنسبة لمناهضي المافيا في ايطاليا وبالنسبة "لليليانا"، بوجه خاص. فلقد تم بالفعل اعتقال العشرات من المشتبه في كونهم زعماء للمافيا كما ان السلطات القضائية قامت خلال الاسابيع الاخيرة بمصادرة ما تبلغ قيمته ملايين الدولارات من العقارات والسيارات الفارهة والاعمال الفنية وحصص الاسهم والمجوهرات الخاصة بأفراد عصابات المافيا... كما ان الشرطة في الولاياتالمتحدة واميركا الجنوبية وايطاليا وفي دول المجموعة الاوروبية الاخرى قامت خلال تشرين الاول اكتوبر الماضي بالقبض على اكثر من مئتين من المشتبه بهم في اطار عملية سميت "غرين آيس" اي "الثلج الاخضر" وهي اكبر عملية من نوعها يتم شنها على الجريمة المنظمة، منذ سنوات طويلة. الخطر ما زال موجوداً بيد ان الاخطار ما زالت باقية وحقيقية: فقد انذر رئيس جهاز الشرطة الايطالي، "فينسينزو باريسي" - اخيراً - انه يمكن توقع المزيد من اعمال العنف. وكان مألوفاً في الماضي ان تتبع اعمال القتل والعمليات الارهابية الموجهة الى الاهداف البريئة حملات توجيه الضربات الى المافيا، وذلك بهدف صرف الانظار عن النشاطات الاجرامية. وقد اكد احد اعضاء عصابات المافيا السابقين، "غاسباري موتولو" - وهو واحد من الذين تحولوا الى شهود، امام قضاة التحري ان قيادة المافيا تفكر في استهداف ضحايا جدد بينهم رئيس شرطة "باليريمو"، "ارنالدو لا باربيرا" وكذلك "غياني دي غينارو" نائب مدير الهيئة الايطالية الجديدة لمناهضة المافيا. وتقول "ليليانا" "ان هذا وقت حاسم ودقيق يستلزم الكثير من الهمة والتركيز"، وتضيف بنزعتها الواقعية - انها تشجعت من جراء نتائج عمليات مثل "الثلج الاخضر" الا انها تخشى "ان تكون تلك النتائج متصلة بطرف يسير من المشكلة - لا غير". وهي هنا تشير الى مرتبة المجرمين الذين تم اعتقالهم في تلك العملية حيث اكدت: "ان علينا القاء القبض على من هم في القمة... فقد نتمكن من اعتقال اولئك الضالعين في تهريب المخدرات وفي الاختطافات... الا انه ما لم يتسن لنا القبض على زعماء المنظمات الاجرامية فانه سيكون من السهل عليهم تماماً ايجاد مجرمين يحلون محل اولئك المعتقلين". هدف ليليانا وتصب "ليليانا فيرارو" جهدها على محاولة توجيه الضربات الى قلب المؤسسة الاجرامية، وذلك عبر قاعدتها المالية، وعلى وجه الخصوص عبر نشاطاتها في مجال غسل الاموال. وهكذا فان اقتفاء اثر تدفق اموال المخدرات يصبح واحداً من اهم سبل مكافحة الجريمة المنظمة، على حد قولها. وهناك جزء جوهري آخر من استراتيجية "ليليانا فيرارو" يتمثل في توثيق الصلات مع سلطات التحري في البلدان الاخرى، وهذا منهج كان "فالكوني" اول من اتبعه، وهي تقول في هذا الصدد: "ان علينا اقناع الحكومات الاخرى بأن ارباح المخدرات تمثل مشكلة للدول كافة حيث ان تلك الارباح بلغت من الضخامة حداً ادخلها الى الانظمة الاقتصادية لدول العالم جميعاً. ولا يمكن القيام بتهريب المخدرات دون مشاركة من المافيا الايطالية او الاميركية، حتى في ما يتصل بالكوكايين: فالمسألة هنا مسألة اموال ومسألة سلطة ومسألة "ماء وجه": فالمافيا لا يمكن لها ان تسمح لمنظمة اخرى بأن تصبح اقوى مما ينبغي". ومثلما بدأت اعداد متزايدة من الدول في الادراك، فان سرطان الجريمة المنظمة - خصوصاً الطراز الايطالي منها - يتفشى بسرعة هائلة، وهي تقول هنا: "في اول الامر يرسلون ارباح مخدراتهم الى احد البلدان حتى يتسللوا الى نظامه المالي، والخطوة التالية هي دخول المافيا الى ذلك البلد وتأسيس وجود مادي بها، فعلى سبيل المثال لم تكن لألمانيا - حتى سنوات قليلة مضت - الا القليل من مشاكل الجريمة المنظمة، اما الآن فقد اصبحت مهمة تماماً في ما يتصل بغسل الاموال حيث انها البلد الذي يلعب الدور الاكبر في تنمية بلدان شرق اوروبا". وتعتقد "ليليانا" اننا في حاجة الى قوانين اكثر شدة وتوافقاً لمواجهة غسل الاموال وتسهيل مهمة رجال التحري في ملاحقتهم وتعقبهم للصفقات المشتبه فيها. وعلى العكس من اعتقادات بعض زملائها في المجموعة الاوروبية - خارج ايطاليا - فانها لا تخشى ان يؤدي زوال الحدود السياسية بين دول المجموعة الاوروبية الاثنتي عشرة الى تسهيل مهمة عصابات الجريمة المنظمة، فمهربو المخدرات وغاسلو الاموال ازالوا الحدود عن اوروبا فعلاً لا قولاً منذ وقت بعيد، وهي تقول في هذا الصدد: "لسوء الحظ فان التداول الحر للأموال موجود بالفعل، وليس لي الا ان آمل في ان تتيح لنا اتفاقية ماستريخت امكانية انشاء نظام معناد يكفل كشف تداول عمليات غسل الاموال في اوروبا". قوات "اوروبول" وهناك خطط جاهزة لانشاء قوات شرطة اوروبية بين دول السوق المشتركة تحمل اسم "اوروبول" وذلك للمساعدة في مناهضة مشكلة الجرائم الدولية المتفاقمة. وسوف تكون القوات الجديدة على نسق الانتربول، الشرطة الدولية التي تتخذ من "ليون" بفرنسا مقراً لها الا ان القوات الاوروبية ستكون مستقلة بنفسها عن المنظمة الدولية. ومن المقرر اكتمال عملية انشاء الشرطة الاوروبية الجديدة في العام 1993. اما في الوقت الراهن فان وزراء الداخلية والعدل في دول المجموعة الاوروبية الاثنتي عشرة اقاموا بالفعل وحدة مشتركة لمناهضة المخدرات للتنسيق عن كثب مع وكالة مناهضة المخدرات في الولاياتالمتحدة. والهدف هنا هو تمكين رجال التحري في بلدان المجموعة الاوروبية كافة من اقتسام المعلومات الجماعية، والتعاون في شأن كل التحريات والتضافر في مجالات التدريب والطب الشرعي والبحوث. وتشارك "ليليانا فيرارو" مشاركة فعالة في تلك المشروعات كما تتردد على "بروكسل" للتشاور مع نظرائها في دول المجموعة الاوروبية حول السبل الكفيلة بتطور درجة التعاون في ذلك الصدد، وهي تقول انها تعتقد ان التعاون الجديد بين الدول الاوروبية سيكون عاملاً مهماً في مساعدة ايطاليا في حربها ضد المافيا. كما ان "ليليانا فيرارو" تستقبل زملاء من دول عدة تفشت الجريمة المنظمة في بلدانهم ومن بين هؤلاء وفد من اليابان حيث تنمو شبكة "الجاكوزا" الاجرامية بسرعة مريعة، وهناك دلائل تشير الى ان تلك الشبكة لها صلات بشبكات الاجرام الايطالية. وتقول "ليليانا": "هذا امر علينا مراقبته عن كثب - على الاقل بسبب القوة الهائلة للاقتصاد الياباني". الهزيمة ممكنة وعلى الرغم من الادلة الواضحة على ان المافيا تمتد بنشاطاتها الى مناطق ابعد وابعد فان "ليليانا فيرارو" موقنة بأن تلك المنظمة يمكن هزيمتها وسوف تلحق بها الهزيمة بالفعل. وهي تشير للطفرات التي حدثت خلال الاشهر الاخيرة مثل قيام "هيئة المهمات" الجديدة في ايطاليا التي قامت على نسق وكالة التحقيقات الفيديرالية الاميركية وتقوم بجمع التحريات المناهضة للمافيا تحت مظلة واحدة بدلاً من تشتتها على وحدات مكافحة الجريمة الايطالية المتفرقة. كما تشير الى منصب "ممثل الاتهام الاعظم" الذي جرى استحداثه اخيراً في ايطاليا والذي يكفل ترشيد التحريات بشأن المشتبه بهم ويسرع بعجلة المحاكمات مما يضمن افلات اعداد اقل من المصيدة القضائية مقارنة بما كان يحدث في ما مضى. وكلا المشروعين كان عزيزاً الى قلب سلف "ليليانا" المشهور، وكلاهما ترعرع خلال عهده كمناهض رئيسي للمافيا. ولم يعش فالكوني كي يشهد تفعيل المشروعين الا ان "ليليانا فيرارو" تقول انه كان سيسعد بذلك. وتضيف: "نحن نبدأ لتونا في مشاهدة ثمار جهود "فالكوني"... ولسوف ننتصر آخر الامر". * مراسلة "وورلد نيوز لينك"