في نهاية الفصل الثالث من العام الجاري، بلغت قيمة الصادرات السودانية 81 مليون دولار، أي بما يزيد بنسبة 7،15 في المئة عن الحجم الذي حققته هذه الصادرات في نهاية الفصل الثاني، وكان الاعتقاد السائد في الخرطوم ان هذا التحسن سيكون احد المؤشرات الايجابية التي يمكن لصندوق النقد الدولي ان يعتمد عليها لتغيير نظرته الى السياسات الاقتصادية في السودان وبالتالي لتعود المياه الى مجاريها بين حكومة الخرطوم وصندوق النقد. الا ان المفاجأة التي لم يكن يتوقعها وزير المال السوداني عبدالرحيم حمدي، هي ان الخبراء الدوليين اتهموا الحكومة السودانية باللجوء الى التصدير بأسعار منخفضة لتسويق منتجاتها، في اطار السعي لاقناع الصندوق بجدية الاجراءات التي اتخذتها، وفعالية سياسة التحول الى اقتصاد السوق التي يقول المسؤولون السودانيون انها اكثر جرأة مما طلب منهم تنفيذه. وفي الواقع لم تكن هذه الحادثة سوى مشهد واحد من مسلسل طويل للخلافات المعقدة والمتفاقمة بين الخرطوم وصندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية والاقليمية الاخرى. وفي المباحثات التي جرت أخيراً في واشنطن، أبلغ الخبراء الدوليون المسؤولين السودانيين ضرورة ان تفي الحكومة السودانية بالتزاماتها الخارجية، قبل ان تصبح مصدراً للمساعدات، في اشارة واضحة الى المساعدات من الحبوب التي قدمتها الخرطوم لبغداد قبل اشهر، على رغم تمنعها حتى الآن عن سداد الالتزامات المالية المستحقة عليها حتى الآن لأطراف خارجية. وفي خطوة مماثلة لسياسة صندوق النقد، رفضت المجموعة الأوروبية الافراج عن مساعدات وقروض تصل قيمتها الى حوالي 320 مليون دولار للسودان، كانت قررتها سابقاً، ثم عادت وجمدتها بسبب ما وصفته باستمرار انتهاك حقوق الانسان من قبل حكومة الخرطوم، واستمرار الحرب الأهلية في الجنوب، والشكوك بأوجه انفاقها. وسيكون على السودان الانتظار حتى شهر آذار مارس المقبل موعد الاجتماع التالي للمجلس البرلماني المشترك لمجموعة الدول الافريقية والكاريبية والمجموعة الاوروبية، في بوتسوان في جنوب افريقيا من دون ان تكون هناك فرص أو مؤشرات كافية لاحتمال تغيير جوهري في السياسة الاوروبية تجاه النظام السوداني. وبالفعل، فان ملف الخلافات بين السودان وصندوق النقد، بات واسعاً، الى درجة أن الشأن الاقتصادي لم يعد سوى واحد من فصوله. وكانت الحكومة السودانية تبلغت في خلال اكثر من لقاء عقد مع خبراء صندوق النقد الدولي ضرورة "تجميل" الوجه الخارجي للسودان، والابتعاد عن اثارة الشبهات الخارجية حول امكان دعم الحكومة السودانية حركات ارهابية، سواء في افريقيا أو في الشرق الاوسط، وجرى ابلاغ الخرطوم بشكل مباشر ضرورة ألا تكون واحدة من عواصم الارهاب، كما هي الحال بالنسبة الى النظرة العالمية لكل من ايران والعراق وليبيا. ونصح خبراء الصندوق الحكومة السودانية ضرورة ان تظهر مزيداً من الجدية في سعيها الى حل أزمة الجنوب، والتوصل الى تسوية تنهي الحرب الاهلية، على اساس ان أي اصلاح اقتصادي لا يمكن له ان يقوم في ظل فقدان الاستقرار السياسي والامني في البلاد. وتبلغت الخرطوم من المجموعة الأوروبية ضرورة احترام حقوق الانسان في السودان والابتعاد عن الارهاب الدولي، وانهاء مأساة الجنوب كشروط للافراج عن المساعدات والقروض الاوروبية. واللافت في سياسة الحكومة السودانية تجاه صندوق النقد الدولي انها تأخذ عليه ما تسميه محاولات التدخل في شؤونها الداخلية من جهة، لكنها في الوقت نفسه تسعى للتوصل معه الى صيغة اتفاق ينهي القطيعة القائمة. وفي الواقع، لم تتوقف اتصالات الخرطوم مع صندوق النقد طوال العام الجاري سواء في واشنطن أو في لندن أو في الخرطوم. وتوصف برامج التحول الاقتصادي في السودان من قبل الخبراء الدوليين بأنها تشكل انطلاقة ايجابية، اذا ما تيسرت لها المتابعة. وفي التقرير الذي اعده المدير التنفيذي للصندوق ميشال كامديسو، ان السودان نجح في تنفيذ خطوات ايجابية شملت تحرير اسعار الجنيه السوداني ورفع الدعم عن اسعار السلع، وخفض الانفاق في الموازنة العامة للدولة وتعديل الرسوم الجمركية وتحرير سوق القطع نسبياً. وتوقع كامديسو ان تخفض الحكومة السودانية من معدلات الاستدانة من البنك المركزي، وأن تعمد الى تطبيق آليات مالية أكثر تحرراً في سوق الصرف، وانتهى كامديسو الى ان ما تنفذه الحكومة السودانية حالياً هو بداية ايجابية، كانت مطلوبة منذ زمن بعيد لاصلاح الوضع الاقتصادي، ومواجهة المشاكل العميقة الجذور، اذا ما أريد للاقتصاد السوداني ان يخرج من النفق. الا ان الوجه الآخر في تقرير المدير التنفيذي لصندوق النقد، هو ان السودان يحتاج، بالدرجة الاولى، الى استعادة الثقة الداخلية والخارجية بسياساته، في اشارة مباشرة وصريحة الى الدعوات الموجهة بصورة حادة الى الخرطوم، لاصلاح صورتها في الخارج وتوفير الاستقرار السياسي والامني في الداخل. كما يحتاج السودان من وجهة نظر الصندوق الى ضرورة سداد الالتزامات المتوجبة عليه. وفي حين تسدد الحكومة السودانية ما يصل الى 6 ملايين دولار سنوياً، كما هي الحال في الوقت الحاضر، فان الصندوق يطالبها برفع هذه الحصة الى 20 مليون دولار، كخطوة لا بد منها لاقناع المؤسسات المالية الدولية باستئناف التعامل مع السودان، وكشرط يسبق امكان افادة الخرطوم من الحقوق المتراكمة مع الصندوق. ويقتصر التعامل الراهن بين السودان وصندوق النقد على خبرات تقنية دولية للاشراف على تطوير السوق المالية وسوق الاسهم، اضافة الى توفير الخبرة اللازمة لاستحداث آليات الصرف والاستدانة والتمويل، ومن غير المتوقع في ظل المعطيات المتوافرة حتى الآن الوصول الى نتائج مهمة. لقد فشلت الحكومة السودانية حتى الآن في رفع اسم السودان عن "لائحة الدول غير المتعاونة"، وهي اللائحة التي تضم الدول غير الملتزمة ببرامج الاصلاح الاقتصادي وسداد الالتزامات المتوجبة عليها، وتبلغت من مسؤولي الصندوق ضرورة التقيد بالتوصيات التي صدرت حتى الآن لتنفيذ الاصلاحات وتخفيض مستويات التضخم الى ما دون مستوى المئة بعدما بلغت في الاشهر الثلاثة الاخيرة ما يتجاوز 125 في المئة، وعادت السوق السوداء الى الظهور، وتفاقمت أزمة المحروقات وعجزت الحكومة عن تغطية وارداتها من الخارج. ويجمع المسؤولون السودانيون على ضرورة التوصل الى اقناع المؤسسات الدولية بجدية الالتزامات التي تطلقها الحكومة، وينظر الى المبادرات التي حصلت اخيراً للتوصل الى استئناف المفاوضات مع ثوار الجنوب بأنها محاولة لاقناع العالم الخارجي بأن الخرطوم لا زالت تسعى الى ايجاد التسوية التي باتت مطلباً خارجياً قبل ان تكون حاجة داخلية.