انتهى السباق العنيف والمواجهة الساخنة في معركة الانتخابات الاميركية، ولم يبق الا أقل من الشهرين على رحيل الرئيس جورج بوش من البيت الابيض وانتقال الرئيس المنتخب بيل كلينتون اليه ليتولى أهم وأعقد وأخطر وظيفة في العالم "رئاسة اميركا" لفترة أربع سنوات مقبلة، بعد اثني عشر عاماً من حكم الحزب الجمهوري لأميركا. وتفاوتت ردود الفعل العربية على نتيجة فوز مرشح الحزب الديموقراطي كلينتون على الرئيس بوش، متفاعلة مع النظرة الذاتية والحسابات الخاصة لكل طرف. وكان أغرب رد فعل يعبر عن الهوس والشذوذ وضيق الأفق هو رد الفعل الصادر من بغداد عندما ظهر صدام حسين في التلفزيون العراقي بعد اعلان النتيجة معبراً عن ابتهاجه وفرحه باطلاق أعيرة نارية في الهواء، وهو في الحقيقة لم يعبر عن مشاعر البهجة بهزيمة بوش بقدر ما كان يعرض حالة انفصام الشخصية وحالة الهوس الانفعالي، لأنه ليس هناك سبب معقول طبيعي أو منطقي يدعو الى الترحيب الحار بفوز كلينتون، ومن المفارقات العجيبة ان كلينتون أعلن مرارا تأييده لحرب الخليج، وأكد ذلك أكثر من مرة في التصريحات التي كان يعلنها أثناء جولاته الانتخابية، وذهب في عدائه لنظام صدام حسين الى أبعد مما ذهب اليه جورج بوش نفسه. ولكن صورة صدام حسين التي ظهر فيها كانت تعبيراً عن الحالة المرضية والتهافت على أي شيء موقت يلهي به الشعب العراقي المغلوب على أمره. وإذا كان الوقت ما زال مبكراً للوقوف على ما ستكون عليه السياسة الاميركية في عهد الادارة الجديدة خلال السنوات الأربع المقبلة فانه يمكن استقراء الاحتمالات المختلفة التي قد تطرأ على مسار هذه السياسة في منطقة الخليج العربي، وإذا كانت التصريحات التي أدلى بها كلينتون اثناء المعركة الانتخابية تمحورت حول المشاكل الاقتصادية الداخلية وكانت مواضيع الضرائب وتحسين الأداء الانتاجي وتوفير الوظائف لقطاع كبير من العاطلين، هي نقاط لها أولوية في سياق برنامج العمل أكثر من هموم السياسة الخارجية، فان هذا لا يعني انعزاله عن السياسة الخارجية. والانكفاء على المشاكل الداخلية، هذا القصور أبعد ما يكون عن الواقع، فالعلاقات السياسية الدولية تقوم على مناهج عدة. والمنهاج التاريخي هو أكثر المناهج ايضاحاً عند تشابه الظروف، على أساس ان للعلاقات الدولية جذوراً وامتدادات تاريخية سابقة مما يدعو الى تفهم الظروف والمؤثرات الدولية في أشكالها المعاصرة. ويذكر انه في عام 1929 م تعرض العالم لأزمة اقتصادية ونقدية بالغة الخطورة، وتمكنت الازمة من كل الدول بما فيها الولاياتالمتحدة الاميركية واستمرت الازمة حوالى ثلاث سنوات بكل ابعادها وتحدياتها. وكانت الحكومة القائمة في ذلك الوقت من الحزب الجمهوري برئاسة هربرت هوفر والمشكلة الاقتصادية تأخذ بخناق الجميع. ومع حلول جولة جديدة من الانتخابات الرئاسية رشح الحزب الديموقراطي فرانكلين روزفلت وكان يدعو أيضاً الى ايجاد حلول داخلية للمشكلة الاقتصادية، وفي آذار مارس 1933 م انتخب فرانكلين روزفلت رئيساً للولايات المتحدة وبدأ عمله بوضع منهاج العمل الذي اطلق عليه الاميركيون البرنامج الجديد وأخذ في علاج الازمة باصدار عدد من القوانين التي تتعلق بالزراعة والصناعة والتأمينات. وعلى رغم ذلك لم ينعزل عن الاوضاع الدولية، ففي ذلك الوقت كانت نذر الحرب تخيم على أوروبا وفي 3 اكتوبر تشرين الأول 1937 ألقى الرئيس الأميركي خطاباً موجهاً الى الأمة الاميركية أوضح فيه ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع ان تبقى محايدة لأن العالم الحديث، فيه تضامن سياسي ومعنوي لا يسمح لأية أمة ان تعزل نفسها عن تبدلات العالم السياسية والاقتصادية، وانه يجب على الولاياتالمتحدة، اذا ارادت ان تتجنب الدخول في الحرب، ان تبذل جهدها في صيانة السلام، وان تعمل بالاتفاق مع الأمم المسالمة. الملك عبدالعزيز وروزفلت وفي عهد روزفلت أخذت العلاقات السياسية تنمو باطراد مع المملكة العربية السعودية تقديراً لأهمية المملكة الاستراتيجية. ففي عام 1943م وجه الرئيس الاميركي روزفلت دعوة رسمية الى الملك عبدالعزيز آل سعود لزيارة الولاياتالمتحدة. وقَبِل الملك الدعوة وأناب عنه ابناه الامير فيصل الملك فيصل بن عبدالعزيز والامير خالد الملك خالد بن عبدالعزيز للقيام بهذه الزيارة. وفعلاً قام الاميران بزيارة الولاياتالمتحدة الاميركية، وأجريا اتصالات مع المسؤولين الاميركيين دارت حول المساعدات وتنمية الموارد البترولية السعودية، وسياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الاوسط. وكان الرئيس روزفلت يتطلع الى لقاء شخصي مع الملك عبدالعزيز ليعرف منه مباشرة آراءه تجاه مشاكل الشرق الاوسط، خصوصاً ان الرئيس الاميركي كان يتعرض لضغوط صهيونية لثنيه عما قرره بشأن تأجيل البت في موضوع اقامة دولة يهودية في فلسطين، ولذلك كان يرى أهمية اجتماعه بالملك عبدالعزيز. وبالفعل اجرى الرئيس روزفلت اتصالاته عن طريق وزارة الخارجية من اجل تحديد لقاء مع الملك عبدالعزيز، وتم اللقاء في منطقة البحيرات المرة عند مدخل قناة السويس، وأعطى الرئيس الاميركي عهوداً مؤكدة ذكرها قبل موته بأسبوع واحد في خطابه الى الملك عبدالعزيز في 5 نيسان ابريل 1945 يقول فيه "انه شخصياً وكرئيس للولايات المتحدة لن يقوم بأي عمل يمكن ان يكون معادياً للعرب". تلك الوقائع التي تسجلها ذاكرة التاريخ توضح حقيقة مهمة وهي أن منطقة الخليج تعني بالنسبة الى السياسة الخارجية الاميركية أهمية خاصة ولها فيها مصالح حيوية، وقد كتب الرئيس روزفلت عام 1943 الى ادوارد ستيتنس المسؤول عن برنامج الاعارة والتأجير "اني وجدت ان الدفاع عن السعودية ذو أهمية حيوية بالنسبة الى الدفاع عن الولاياتالمتحدة". لقد تصور بعض المراقبين ان الادارة الاميركية الجديدة ستتفرغ لمشاكلها وأزماتها الداخلية وانها ستحد من التزاماتها الخارجية. ولا شك ان هذا التصور لا يتفق مع الواقع وإذا كانت بعض الانظمة العربية الاستبدادية استفادت اثناء فترة الحرب الباردة بين المعسكرين المتنافسين بالتحالف مع احدى القوتين العظميين وخدمة مصالحها في مقابل دعم هذه الانظمة الاستبدادية وغض الطرف عن ممارساتها الداخلية اللاانسانية، الا انه بعد انتهاء هذه المرحلة فقدت هذه الانظمة القدرة على المناورة بين المعسكرين والمساومة على الدخول في تحالف مع احد الطرفين وانتهت هذه المرحلة وصارت اميركا هي القوة العظمى الوحيدة. كلينتون والسعودية والتصور بأن الولاياتالمتحدة في عهد كلينتون لن تعير أي اهتمام لمشاكل العالم الخارجي لتتفرغ لمشاكلها فقط غير صحيح، بل ان استطلاعات الرأي والتصريحات التي كان يدلي بها كل من بوش وكلينتون تؤكد انه يجب على الولاياتالمتحدة ان تكون قوة اقتصادية عظمى كي تستطيع ان تمارس دور الزعامة والقيادة في الساحة الدولية. ولا شك ان انتهاء الحرب الباردة سيدفع الولاياتالمتحدة الى التخفيف من عبء موازنة الدفاع ومن ثم يتحقق تحسين اوضاع الموازنة بها، ويساعد على استخدام الموارد بشكل يتيح للاقتصاد الاميركي ان يمتلك زمام الأمور. وإذا كان من المحتمل ان تشهد السياسة الخارجية الاميركية بعض التغيير في النهج وأسلوب التعامل فان هذا التغيير سيكون محدوداً، وفي جميع الاحوال فان استمرارية السياسة الاميركية في منطقة الخليج حقيقة يؤكدها جميع المراقبين، فللولايات المتحدة مصالح استراتيجية في هذه المنطقة وكان كلينتون أعلن غداة انتخابه تمسكه باستمرارية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فالمصالح الحيوية الاميركية لها الاولوية في كل القرارات التي تصدرها الادارة الاميركية ولا شك ان كلينتون سيحذو حذو الرؤساء الاميركيين السابقين منذ عهد فرانكلين روزفلت وذلك بالعمل من أجل ضمان الاستقرار والامن في هذه المنطقة المهمة بالنسبة الى اميركا والعالم وابعادها عن أية هزات. فمنطقة الخليج العربي في مقدمة أهم المناطق الاستراتيجية في عالم اليوم، وهذا يعود الى جغرافيتها المميزة والى النواحي الاقتصادية والسياسية والبشرية والسكانية والعسكرية. وأهمية هذه المنطقة تتزايد، وقد زاد النفط كسلعة استراتيجية، اهمية الخليج العربي حيث يمثل بترول الخليج حوالي 40 في المئة من اجمالي الانتاج العالمي و60 في المئة من الاحتياط العالمي، وهذا يعادل أكثر من 60 في المئة من موارد العالم النفطية، وحوالي 90 في المئة من حاجة اليابان من النفط و70 في المئة من استهلاك الولاياتالمتحدة الاميركية. ويتفق خبراء الاستراتيجية والسياسة والاقتصاد على ان اهمية منطقة الخليج العالمية ستزداد مما يجعلها مطمعاً ومحور صراعات لن تقتصر على الدول الكبرى التي لها مصالح رئيسية في المنطقة بل انه سيمتد ليشمل كذلك القوى الاقليمية في المنطقة والتي لها سابقة قريبة وقعت على مرأى ومسمع العالم كله عندما اجتاح صدام حسين الكويت بقواته واحتلها في ساعات معدودة. ومن هنا فان التهديدات التي تواجه المنطقة تأخذ طابع الخطورة، لأنها لا تقتصر على التهديدات الخارجية من الدول الكبرى التي لها مصالح حيوية في المنطقة وإنما تنبع من المنطقة نفسها وهذا يضفي على المنطقة طابع الحساسية ويؤثر تأثيراً مباشراً على استقرار المنطقة السياسي وأمنها القومي. ويؤكد ما ذهبنا اليه ان الرئيس المنتخب بيل كلينتون أكد من خلال مكالمة هاتفية مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز التزام بلاده الكامل بأمن المملكة العربية السعودية وتعهد بالعمل من اجل السلم والاستقرار في الشرق الاوسط حيث أكد الرئيس الاميركي المنتخب النقاط المهمة الآتية: ان اميركا ستظل ملتزمة بالدفاع عن امن المملكة العربية السعودية طبقاً للسياسة الطويلة الأمد التي يرجع تاريخها الى ادارة الرئيس فرانكلين روزفلت. يتفق كلينتون مع التصور القائل باحتمال بروز "قوة معادية" جديدة في منطقة الخليج لتهدد السلم والاستقرار. وقال ستيفانو بولس ان كلينتون عندما اشار الى "قوة معادية" جديدة في منطقة الخليج لم يكن يقصد سوى ايران. ان الادارة الاميركية الجديدة ستعمل مع اصدقاء اميركا وشركائها من العرب من اجل انجاح عملية السلام في الشرق الاوسط. عصر الوفاق والقوة وعندما تحدث الرئيس الاميركي المنتخب كلينتون عبر الهاتف مع الملك فهد بن عبدالعزيز فهذا يعود للعلاقات التاريخية والمميزة بين البلدين وباعتبار ان السعودية هي الدولة الكبرى في مجلس التعاون الخليجي ولديها امكانات حل المعادلة وتجييرها لصالح دوله. ويأتي حديثه مع الملك فهد ثالثاً من منطلق مبدأ المصالح الحيوية لأميركا في منطقة الخليج وقاعدة المصالح وتبادلها والمحافظة على استقرار المنطقة برمتها وضمان تدفق النفط الى اسواق استهلاكه الرئيسية. ويعكس رابعاً سياسة أميركا القائمة على مبدأ المصالح الحيوية الذي طرحه الرئيس الأسبق كارتر والذي بموجبه اعتبرت الولاياتالمتحدة أية محاولة خارجية للسيطرة على الخليج بمثابة اعتداء على مصالح اميركا الحيوية وسترد عليه بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية. وهذا ما أكدته اميركا من خلال أزمة الخليج حيث تزعم موقفها جميع المواقف. وهذا الموقف الذي طبق في أزمة الخليج هو في الواقع المعاش مبدأ سياسة الحزب الديموقراطي الذي فاز في الانتخابات الاميركية ومرشحه بيل كلينتون مما يجعلنا ننتهي الى القول ان القيادات في اميركا قد تتغير لكن الاهداف وسياستها الدولية ومصالحها الاستراتيجية تأخذ الأولوية. فمثلاً البترول واسرائيل. فاذا كان على رأس السلطة في أميركا رئيس منتخب من الحزب الجمهوري أو الديموقراطي فان سياستهما حول هذا الامر لن تتغير على الاطلاق. فأمن اسرائيل ركيزة مهمة لاستراتيجية السياسة الاميركية، وحماية أمن الخليج لضمان تدفق النفط الى اميركا والعالم ركيزة مهمة كذلك لاستراتيجية السياسة الاميركية تطبيقاً لمبدأ المصالح الحيوية لأميركا. ومن هذا المنطلق فاننا نعتقد ان الولاياتالمتحدة، انطلاقاً من حماية مصالحها الحيوية، كما حددتها في "مبدأ كارتر" الذي فاز حزبه بالرئاسة، لن تتردد في المستقبل بالرد والدعم والردع السريع بالقوة المناسبة اذا جدت أحداث طارئة في الخليج على نمط يتمشى مع الخط الذي حدث اثناء أزمة الخليج. وبذا اضحى المبرر من القلق من مغادرة بوش للبيت الأبيض ودخول كلينتون اليه لتسلم أهم وأعقد وأخطر وظيفة في العالم لا وجود له، لأن بوش وكلينتون وغيرهما من الرؤساء الاميركيين يعملون لمصالح بلادهم العليا. فقد تتغير القيادات في اميركا ولكن الأهداف تبقى ثابتة. ولكن الأمر الذي يجب الالتفات اليه ان يتصور العالم العربي برمته ان الرؤساء الاميركيين، جمهوريين أو ديموقراطيين، يتحكمون ويسيّرون مصير ومستقبل عالمنا العربي وان مجيء كلينتون أو بقاء بوش سيغير من الامر شيئاً. ان شيئاً من هذا لن ولم يحدث، فعلى العرب، وفي مقدمتهم دول الخليج العربي الغنية ثروة واستراتيجيا، ان تستوعب الدروس الماضية وتبني قوة ردع، فهي وان تلقت غزواً غادراً من العراق وردته بمساعدة دول العالم وفي مقدمتها اميركا فانها تقع بين ايران الطامحة الى القوة النووية واسرائيل التي امتلكت تلك القوة منذ مدة طويلة. وليس امام دول الخليج العربي خيار غير بناء القوة لتضمن لها ولمواطنيها معاني البقاء والتكامل والتماسك والاستقرار. فالقانون الدولي قاعدتاه القوة والمصلحة. وعصرنا هذا على رغم تسميته بعصر الوفاق الدولي فهو عصر القوة كذلك. والعالم يصغي للقوة... فهي في شكل أو آخر ضرورة حتمية لا غنى عنها ولا مهرب من العمل الحثيث لامتلاكها اذا أرادت أية دولة الحفاظ على مكانتها ومهابتها وسيادتها واستقلالها ومكتسباتها. * كاتب سياسي واقتصادي سعودي معروف.