لم يعرف تاريخ الانتخابات الاميركية من قبل ضجة كتلك التي اثيرت حول هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الاميركي الجديد بيل كلينتون. اذ تحولت هذه المحامية اللامعة 44 عاماً التي اشتهر عنها دفاعها عن حقوق الاطفال في الولاياتالمتحدة الى قضية اساسية من قضايا الحملة الانتخابية الاميركية. وصار اسمها على كل شفة ولسان في المجتمع الاميركي خصوصاً بعد ان وصفها احد الجمهوريين بأنها "من نوع السيدات اللواتي يقتلن اولادهن"، وانتقدها كل من الرئيس الاميركي السابق جورج بوش وزوجته باربره علناً في مناسبات عدة. التحقيق الآتي يلقي الاضواء على حياة وشخصية هيلاري كلينتون التي وعدت بتغيير الدور الذي تلعبه سيدة الولاياتالمتحدة الاولى بشكل جذري. نشأت هيلاري رودهام في احدى ضواحي مدينة شيكاغو الاميركية حيث كان والدها يملك ويدير متجراً للاقمشة، ولعبت والدتها دوروثي رودهام دوراً كبيراً في توجيهها ومساعدتها على انتهاز الفرص المتاحة امامها، كونها فتاة من الطبقة المتوسطة في تلك الفترة المزدهرة التي سادت في الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. مالت هيلاري اثناء صباها الى الحزب الجمهوري، وحافظت على آرائها السياسية المحافظة حتى دخولها كلية ويليزلي للفتيات في ولاية ماساشوستس التي تعتبر من بين الكليات المرموقة في الولاياتالمتحدة. لكن فترة الستينات ذات التأثير السياسي والاجتماعي الليبيرالي القوي دفعتها الى اعتناق افكار الحزب الديموقراطي وجعلتها اكثر التزاماً بالسياسة. وكانت هيلاري رودهام احدى منظمات اول حركة احتجاج شهدتها كلية ويليزلي ضد حرب فيتنام، والقت يوم تخرجها اول خطاب تخرج في تاريخ الكلية بصفتها رئيسة للمجلس الطلابي فيها، ونشر خطابها القوي والمؤثر آنذاك في مجلة "لايف" الاميركية المشهورة. حلمت هيلاري رودهام اثناء دراستها الثانوية في كلية ويليزلي بأن تصبح رائدة فضاء في المستقبل، لكنها دخلت كلية الحقوق في جامعة "يال" الاميركية المشهورة عوضاً عن ذلك، والتقت هناك بيل كلينتون للمرة الاولى. ويقول كلينتون عن ذلك اللقاء: "علمت منذ الدقيقة الاولى التي رأيتها فيها انني سأقع في حبها". لكنه مع ذلك لم يبادر الى التعرف الى هيلاري، واتخذت تلميذة الحقوق النجيبة الخطوة الاولى في مكتبة الكلية وقالت لكلينتون: "من الافضل لنا ان نعرف اسم بعضنا البعض عوضاً عن ان يحدق الواحد منا في وجه الشخص الآخر على الدوام". التحول كانت هيلاري رودهام مؤهلة للقيام باعمال كبيرة وطموحة بعد تخرجها من جامعة "يال"، وكانت والدتها تتمنى لها ان تصبح اول قاضية في المحكمة العليا الاميركية. وبعد ان عملت مع لجنة الكونغرس التي حضرت لاتهام الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون بالتقصير اثر فضيحة "ووترغيت"، قررت هيلاري رودهام التخلي عن طموحها الواعد بمستقبل كبير في مجال المحاماة في واشنطن او نيويورك وقبلت الزواج من بيل كلينتون عام 1975. وانتقلت بعد ذلك الى ولاية اركانساس حيث عملت في التدريس، وساعدت زوجها على الوصول الى منصب مدعي عام الولاية عام 1976. كذلك شاركت في الحملة الانتخابية التي جعلته حاكماً لاركانساس عام 1978 وهو في الثانية والثلاثين من عمره. في العام 1980، انجبت هيلاري طفلتها الوحيدة تشيلسي من بيل كلينتون، وتصادف ذلك مع تعيينها شريكة في شركة روز للمحاماة في اركانساس. وكانت هيلاري في تلك الفترة مازالت مصرة على استعمال اسم عائلتها قبل الزواج في التعريف عن نفسها، وكانت تكره التبرج، وترتدي نظارات طبية سميكة، وتلبس البلوزات الواسعة. وضايق ذلك الناخبين في ولاية اركانساس الذين اعتبروها "متكبرة ومتحررة اكثر من اللزوم" خصوصاً بعد ان نشرت الصحف خبر ولادة طفلتها تشيلسي وعلقت بأن "الحاكم بيل كلينتون وهيلاري رودهام أنجبا طفلة". وأثّر ذلك على شعبية كلينتون في تلك السنة الانتخابية وخسر منصب حاكم الولاية. وكانت تلك الفترة صعبة جداً في حياة الزوجين الشابين خصوصاً ان خسارة كلينتون ترافقت مع صعود زوجته هيلاري في عملها. و... صارت هيلاري كلينتون لكن هيلاري ذات الارادة القوية صممت على فعل كل ما في وسعها لاعادة زوجها الى منصبه. وكانت اول خطوة في هذا الاتجاه قيامها بالتخلي عن اسم عائلتها "رودهام" واستعمال عائلة زوجها عوضاً عن ذلك، وصار اسمها هيلاري كلينتون منذ ذلك الحين. كذلك صبغت شعرها، وبدأت باستعمال العدسات اللاصقة عوضاً عن النظارات الطبية، واظهرت اهتماماً جديداً في اناقتها. اضافة الى ذلك، استخدمت حاضنة اطفال للعناية بطفلتها تشيلسي طيلة النهار ورافقت زوجها بيل في رحلات الدعاية الانتخابية في جميع انحاء الولاية. وتقول بيتسي رايت، مديرة حملة كلينتون الانتخابية آنذاك، ان هيلاري "كانت ضرورية لنجاح بيل، وكان يحتاج اليها في العمل على الترويج لبرامجه السياسية الحكومية". وبعد نجاح بيل كلينتون في انتخابات حاكم الولاية عام 1982، عين زوجته هيلاري رئيسة لجنة الولاية للمستوى التعليمي عام 1983. ومنذ ذلك الحين، عملت هيلاري كلينتون على تحسين مستوى التعليم في اركانساس واقنعت زوجها بتخصيص 70 سنتاً من كل دولار ضريبي تحصله الولاية للبرامج التربوية. وكسب كلينتون تأييد نقابة المعلمين التي كانت من ألد خصومه بهذه السياسة الجديدة خصوصاً بعد رفعه رواتب المدرسين السنة الماضية. واثبتت هيلاري كلينتون انها شريكة سياسية ماهرة لزوجها. ولم تكتف هيلاري كلينتون بمهنة المحاماة وبراعتها القانونية في الدفاع عن حقوق الاطفال والعائلات التي جعلتها احدى ألمع المحامين والمحاميات المئة الاكثر نفوذاً في الولاياتالمتحدة حسب نشرة "ناشونال لو جورنال" الحقوقية، لكنها صارت اضافة الى ذلك عضوة في مجالس ادارة شركات عدة. ومن بين تلك الشركات "وال مارت" التي ساهمت هيلاري في جعلها من بين "احسن مئة شركة يمكن العمل فيها في الولاياتالمتحدة"، وصاغت لها سياسة بيئية تعتمد على اعادة استخدام وتصنيع المواد الاولية التي كانت تلقى عادة في النفايات. اضافة الى اهتماماتها المهنية، كرست هيلاري بقية وقتها للاهتمام بطفلتها تشيلسي. وكانت تساعدها على حل فروضها المدرسية بواسطة آلة "الفاكسيميلي" اثناء ابتعادها عنها خلال عملها الذي يتطلب منها احياناً ترك منزلها وعائلتها مرتين او ثلاث في الاسبوع. واثناء تغيبها عن المنزل، كانت هيلاري تمضي وقتاً طويلاً وهي تستمع الى كلام ابنتها البالغة من العمر 12 سنة على الهاتف. وتقول ميليندا مارتن، احدى مربيات تشيلسي، ان "هيلاري تجلس دائماً مع ابنتها وهي تتناول طعام العشاء عندما تكون في المنزل… وتأخذها في اجازات". وتتعامل هيلاري كلينتون مع ابنتها وكأنها شخص بالغ، وتحاول حمايتها قدر استطاعتها من الاتهامات والانتقادات اللاذعة التي يتعرض لها بيل كلينتون وزوجته اثناء عملهما. وكانت هيلاري حذرت ابنتها اثناء الحملة الرئاسية الاخيرة كي تحضر نفسها لمواجهة الاتهامات والهجومات التي ستنصب على العائلة. وتقول السيدة كلينتون عن ذلك: "قلت لها انهم سيتهجمون عليّ، وعليها، وسيهاجمون قطتنا وسمكتنا ايضاً قبل ان تنتهي هذه الحملة". أم وسياسية وهكذا استطاعت هيلاري كلينتون تحقيق الحلم الذي تسعى اليه كل سيدة اميركية، اذ جمعت بين نجاحها في حياتها العملية ومساعدتها لزوجها في منصبه السياسي وقيامها بدور الأم الصالحة لطفلتها الوحيدة. فما هو السبب الذي جعلها هدفاً للنقد والتجريح من قبل اعضاء الحزب الجمهوري الذين وصفوها بالتحرر الزائد واتهموها بتدمير القيم العائلية والاخلاقية الاميركية؟ وهل يبرر ذلك قول القس الانجيلي والمرشح الجمهوري الرئاسي السابق بات روبرتسن عنها انها من نوع السيدات اللواتي "يتركن ازواجهن، ويقتلن اولادهن، ويمارسن الشعوذة، ويدمرن الرأسمالية…"؟! لماذا اذن تحولت هذه السيدة الشقراء الرشيقة ذات الذكاء اللامع والارادة القوية الى خطر يهدد الحياة العامة والنظام في الولاياتالمتحدة؟ وكيف صارت قضية كبيرة في الحملة الرئاسية الاميركية الاخيرة؟ دور جديد نظرة سريعة على تطورات الحملة الانتخابية الاميركية الاخيرة تبين ان مديري حملة الرئيس بوش في الحزب الجمهوري كانوا يظنون انهم يستطيعون انتزاع اصوات الناخبين من بيل كلينتون بواسطة اظهار زوجته هيلاري بأنها من النساء المتحررات جداً اللواتي يفضلن المكوث في المكتب عوضاً عن المطبخ. لكن مراقبين متتبعين لسير الحملة الرئاسية الاميركية الاخيرة اعربوا عن رأيهم بأن سبب الحملة ضد هيلاري كلينتون كان شخصيتها القوية التي اعتبروها انها ستغير بالتأكيد من الصورة التقليدية للسيدة الاولى في الولاياتالمتحدة. ومما يؤكد هذا الرأي قول بيل كلينتون عن زوجته العام الماضي انها "اكثر تنظيماً واكثر ذكاء مني". وفي الوقت الذي تكتفي فيه زوجات الرؤساء الاميركيين عادة بالقيام بدور المضيفات في حفلات الشاي، وبكتابة مذكرات كلبهن المفضل كما فعلت باربره بوش، او بالجلوس قرب ازواجهن والابتسام لهم بحب واعجاب كما كانت تفعل نانسي ريغان، تقوم هيلاري كلينتون بالقاء الخطب السياسية وتساعد زوجها على صوغ استراتيجيته السياسية. وتتميز هيلاري عن جميع زوجات المرشحين للرئاسة الاميركيين السابقين بأنها الوحيدة التي تتقاضى راتباً يساوي خمسة اضعاف راتب زوجها. وتفسر روث ماندل، مديرة مركز المرأة والسياسة في جامعة راتجرز الاميركية، سبب الحملة القاسية التي تعرضت لها هيلاري كلينتون وتقول: "تمثل حياة وتصرفات هيلاري كلينتون التغييرات التي لحقت بحياة النساء في العقود الماضية، لكن الناس يرفضون اي تغيير كبير وسريع خصوصاً عندما يتعلق الامر في النساء". ويبدو ان هيلاري كلينتون كشفت عن غير قصد تناقض المجتمع الاميركي مع نفسه. ففي الوقت الذي يشهد فيه هذا المجتمع مشاركة اوسع وسلطات اكبر للنساء في الحياة الوطنية، فهو ما زال يرفض فكرة وجود سيدة ذات شخصية قوية في واجهة الحياة السياسية الاميركية. ولذلك نجح الجمهوريون في اوائل حملتهم الانتخابية في اخافة الناخبين من هيلاري كلينتون التي تتصرف وكأنها "اللايدي ماكبث… وويني مانديلا السياسة الاميركية". وساعدهم في ذلك قول هيلاري نفسها في احدى المقابلات بانها ليست "المرأة التي يمكن ان تجلس في البيت لتعد الكعك وحفلات الشاي"، مما اثار حفيظة العديد من السيدات الاميركيات غير العاملات. رهان خاسر وصلت الانتقادات الموجهة الى هيلاري كلينتون الى ذروتها اثناء مؤتمر الحزب الجمهوري الاخير في هيوستون عندما تناوب اعضاء الحزب على التجريح بها علناً او باسلوب غير مباشر. ولم تسلم هذه السيدة المسكينة حتى من انتقادات الرئيس السابق جورج بوش وزوجته باربره ونائبه دان كويل وزوجته ماريلين. وتقول هيلاري كلينتون عن هذه الانتقادات: "لا اعرف كيف يجب ان اتعامل مع هذا الكلام. ان ما حصل اخيراً جزء من استراتيجية سياسية ساخرة ومحزنة للغاية. هذه الانتقادات ليست موجهة ضدي أنا، وأنا لن اعتبرها كذلك لانها مشوهة للحقيقة وغير دقيقة". اضافة الى ذلك، يبدو ان مديري حملة الحزب الجمهوري لم يقدروا بشكل جيد قوة شخصية هيلاري كلينتون وتصميمها العنيد على ايصال زوجها الى الرئاسة الاميركية. اذ استطاعت هذه السيدة تخطي ازمة خيانة زوجها لها مع فتاة اميركية تدعى جنيفر فلاورز، وعملت جاهدة على تغيير صورتها لدى الرأي العام الاميركي. وصارت هيلاري تتحدث في المقابلات التي تجرى معها عن اهمية الدور الذي تلعبه الام واعطت مجلة "فاميلي سيركل" وصفة خاصة بها لصنع الكعك بالشوكولا، احد انواع الحلوى المفضلة لدى الاميركيين. كذلك تخلت عن مظهر سيدة الاعمال والمحامية الرصين، واختارت لنفسها تسريحة شعر مرحة ومجموعة ثياب انيقة. ورفعت هيلاري شعاراً جديداً تقول فيه "انتخبوا بيل، تحصلوا عليّ ايضاً" في اشارة الى جهودها من اجل تحسين التعليم والدفاع عن حقوق الاطفال والعائلات في الولاياتالمتحدة. وكان الرهان على "عامل هيلاري" لانجاح جورج بوش رهاناً خاسراً تماماً، حيث ان مديري حملة الحزب الجمهوري الانتخابية سيندمون من دون شك تحويلهم هذه السيدة الى قضية انتخابية.