نصف فرنسا مشغول هذه الايام بمستقبل الوحدة الاوروبية والنصف الآخر مشغول بفانيسا بارادي، التي ذهبت الى اميركا طفلة قبل عام وبضعة اشهر، لتعود الى باريس امرأة ناضجة حاملة ألبوم اغنيات جديدة تنشدها باللغة الانكليزية هذه المرة. واذا كان يوم 02 ايلول سبتمبر يوم التصويت على معاهدة ماستريخت الاوروبية بالنسبة الى النصف الاول من الفرنسيين، فانه بالنسبة الى النصف الثاني كان يوم صدور البوم تلك التي استفزت الفرنسيين كثيرا قبل سفرها الى اميركا… وبخاصة حين ارتدت ثياب بلبل وطارت داخل قفص مذهب في اعلان عن عطور كوكو شانيل. هنا حكاية نجمة فرنسية اعلامية صغيرة اسمها فانيسا بارادي وعمرها 19 سنة. ويتفق عدد كبير من النقاد الفنيين ان احد اسباب شهرة فانيسا بارادي انها ظلت طفلة، في شكلها وبراءة مظهرها وسحرها واسلوبها في الكلام وجاذبية عينيها. وقد وقع الكثيرون من الفرنسيين اسرى هذه الطفلة. ما قصة فانيسا بارادي؟ مرآب كبير غير مستعمل في داخله قفص كبير مذهب، وفي داخل القفص عصفور بلبل ذو ريش وألوان، وداخل القفص طفلة ينقسم الناس تجاهها الى قسمين: الاول يحبها ويعتبرها موهبة فرنسية جديدة، والثاني يشعره وجودها بأنه مستفز، فلا يخفي كراهيته لها. فرنسا التي اعتادت ان تنقسم حول كل شيء تقريبا، انقسمت هذه المرة حول تقديرها لتلك الفتاة التي بلغت الآن عامها التاسع عشر. ولكن المؤسف ان الاكثرية وقفت منها موقف العداء. والحال ان الاعلان عن حجم المبلغ الذي دفع للفتاة - الطفلة لقاء ارتدائها ثياب الطائر لمصلحة عطر شانيل وطيرانها داخل القفص، خلال حفلة التصوير التي تمت في ذلك المرآب، زاد من حدة العداء تجاهها، اذ كيف تربح تلك الصبية بحوالي ستمائة الف دولار، مقابل ما فعلته في وقت تعيش فيه فرنسا كلها أزمة اقتصادية خانقة؟ الحقيقة ان طرح السؤال بذلك الشكل الفج، ادى الى ازعاج فانيسا بارادي، وهو اسم الفتاة والبلبل، مما جعلها تنسحب بكل هدوء من الساحة الفرنسية لتغيب اكثر من عام، عادت بعده اخيراً لتستقبل استقبال الفاتحين. ففانيسا بارادي اليوم هي نجمة الحياة الفنية الفرنسية، تتسابق شبكات التلفزة للتحدث معها، وتحمل معظم المجلات الفنية الشعبية صورتها على الغلاف، بشكل يوحي بأن ثمة اجماعا، او ما يشبه الاجماع حالياً على العودة لاحتضان تلك التي كانت برزت للمرة الاولى وهي في الرابعة عشرة والنصف من عمرها، فكفاها ظهور واحد على الشاشة الصغيرة، يومها، حتى تصبح نجمة الشارع وحديث الناس. وكان ذلك قبل حفلة القفص بسنوات، اي قبل ذلك الاعلان الشهير عن عطور كوكو شانيل، الذي حول فانيسا الى طائر وجال في العالم كله طولا وعرضا، ليزيد من شهرة الفتاة شهرة ويفتح لها الآفاق العالمية. ونعود الى سياق حديثنا فنتساءل كيف تحولت فانيسا من موضوع للخلاف يوم أذيع اعلان كوكو شانيل، الى موضوع للتبجيل الفرنسي الآن؟ بكل بساطة، امضت فانيسا عاما في اميركا، لتعود بعده كالفاتحين. انه سحر الحضور الاميركي، والفرنسيون في اكثريتهم لا يشذون عن شعوب العالم الخاضعة لذلك السحر. وليس هذا فقط، بل انها سجلت "البوما" غنائيا جديدا باللغة الانكليزية، بل ومن تلحين المغني والموسيقي الاميركي الشهير ليني كرافيتز. وهكذا، عرفت فانيسا بارادي مرة اخرى من اين تؤكل الكتف. وليست تلك هي المرة الاولى التي تمارس فيها شطارتها وتنجح في ذلك. غينسبورو يحتضنها وحكاية النجاح السريع الذي تحققه فانيسا بارادي، استثنائية. ولكن، من المؤكد ان ثمة عناصر شطارة واضحة تدخل فيها. فللوهلة الاولى لا يبدو ابدا ان فانيسا تتمتع بأية مواهب فوق العادة، فشكلها لا يخرج عن اطار عادية اشكال البنات الفرنسيات من جيلها، وصوتها كمغنية ضعيف رغم بحته الجميلة، وحين مثلت على الشاشة الكبيرة لم تلفت الانظار حقا باداء استثنائي، اضف الى هذا ان ظهورها في البرامج التلفزيونية لم يجعل لها موقعا خاصا في افئدة المتفرجين. انطلاقا من هذا كله يمكن الحديث عن حكاية تصنيع متكاملة الاطراف، حكاية مزروعة بالنسبة الى الانتاج الفني لفانيسا بارادي بفيلم واحد، واعلان واحد، والبومين غنائيين اضافة الى الالبوم الجديد الذي يصدر هذه الايام، ومن السابق لاوانه الحكم عليه منذ الآن، وان كان من المعروف مسبقا انه يستعيد بشيء من الحنين اغنيات سنوات الستين والسبعين… تبدأ حكاية فانيسا بارادي باكرا جدا، حين كانت في الثامنة من عمرها، عندما ظهرت في برنامج تلفزيوني شهير للأطفال عنوانه "مدرسة المعجبين" يأتي اليه الاطفال فيقلدون المغنين الكبار، وينالون تصفيقا. بعده اختفت الطفلة حتى لتعود وتظهر بشكل مفاجئ وقد اصبحت غادة مراهقة في الرابعة عشرة من عمرها، لتغني اغنية خفيفة عنوانها "جو… التاكسي" لفتت انظار نوع معين من الجمهور. بيد ان ما لفت الانظار اكثر، كان دلال فانيسا وهي تغني، والشبه الغريب بينها وبين … بريجيت باردو، التي لا تزال اسطورتها تشغل بال الفرنسيين حتى اليوم. وكان واضحا ان الفتاة ذات حضور جيد استطاع لفت نظر الموسيقي الذي رحل في العام الفائت سيرج غينسبورو، فما كان منه الا ان كتب لها مجموعة اغنيات جديدة، و بدا وكأنه يحاول رعايتها، على طريقته الخاصة، ذاك الذي كان عرف بطبيعته الاستفزازية. والحال ان فانيسا وصلت خلال العامين 1989 و1990 الى ذروة نجاحها، اولا عبر رعاية غينسبورو لها، وثانيا عبر فوزها بجائزة اساسية من جوائز سيزار السينمائية عن تمثيلها في فيلم "الاعراس البيضاء"، وهو الفيلم الطويل الوحيد الذي مثلته حتى الآن. صحيح ان الفيلم لم يكن فيلما كبيرا، لكن ما استوقف الناس حقا، كان اغراقها في البكاء خلال حفل تسليم الجوائز، وكان لمرأى دموعها على الشاشة المتلفزة فعل السحر، لدى شعب فرنسي يميل الى العواطف في بعض الاحيان. ومن هنا انقسم الناس تجاهها: قسم رأى الجانب الاستفزازي في شخصيتها، واعتبر بكاءها جزءا من لعبة حاذقة، وقسم بكى معه متعاطفا. وحسبك ان تقسم الناس من حول امر ما، لكي يعم ويصبح حديث الناس جميعا. وهكذا اصبحت فانيسا حديث الجميع… شوق الى السينما وبدأت الصحافة غير الفرنسية من جهة اخرى تهتم بها، مشبهة اياها حينا ببريجيت باردو، وحينا باديث بياف. ثم كانت حكاية البلبل واعلان كوكو شانيل… اليوم تتذكر فانيسا تلك المرحلة وكأنها صارت جزءا من ماض بعيد، وتقول عن مناخ تصوير الاعلان: "لقد كان الامر بالنسبة اليّ اشبه بحكاية خرافية اشعر وكأنني اميرة حقيقية". وتقول فانيسا ان ذلك الجو لم يرهبها، كما لم يرهبها ابدا العمل في فيلم "اعراس بيضاء" الذي حبب اليها فن التمثيل، الذي تشعر احيانا انها تفضله على الغناء. لماذا اذن لم تعيدي التجربة؟ تقول فانيسا بهدوء: "انني احب ان اعيد التجربة، لكن ايا من السيناريوهات التي عرضت علي حتى الآن لم يقنعني. ثمة لحظات كنت فيها على وشك القبول، مع تقديم بعض التنازلات، بسبب شعوري بضرورة ان امثل، لكن في النهاية اكتشفت انني غير مضطرة لارتكاب اي خطأ… بل انني افضل الانتظار خمس سنوات اخرى". في انتظار ذلك، تقول فانيسا بارادي، ان عليها ان تنصرف للترويج لألبومها الاميركي الجديد، اما ما لا تقوله فهو ان عليها ايضا ان تهتم بأمر الثروة الكبيرة التي ربحتها حتى الآن. ثروة تقدر بالملايين، وتفضل فانيسا عدم التحدث عنها قائلة انها تترك مثل هذه الامور لأمها وابيها لأنها تثق فيهما ثقة عمياء. وتقسم امام الصحافة ان ليس لديها اي فكرة عن حجم ثروتها "ومن المؤكد، تقول، انني لن استطيع ابدا معرفة حجم هذه الثروة"! اما بالنسبة الى الالبوم فتقول انها تشعر بأن اغنياتها الجديدة ملتصقة كل الالتصاق بكينونتها بل انها افضل مما كان في وسعي ان اتخيل" تقول وتشدد على ان ما ساعد هذا العمل على ان يكون جيدا الى هذا الحد، هو ذلك التواطؤ الذي نشأ بينها وبين ليني كرافيتز "لقد اعتدنا ان نفهم على بعضنا البعض، حتى دون ان نقول اي كلمة. والغريب انني استشعر في اغانيه التي وضعها لي، كل ما كنت استشعره، واعجز عن التعبير عنه!" واذا ذكرها الصحافيون بأنها سبق ان قالت الشيء نفسه عن الاغنيات التي كتبها لها سيرج غينسبورو قبل عامين قالت: "أحقا قلت هذا؟ لقد نسيت… وربما كان الامر على ذلك النحو حقا!!". من برنامج تلفزيوني الى برنامج آخر تتنقل اليوم فانيسا في فرنسا، في محاولة منها لاكتساب الجمهور الفرنسي الذي تشعر انه ابتعد عنها كثيرا خلال غيابها في الولاياتالمتحدة، لكنها تقول انها لا تضع يدها على قلبها خوفا من عدم امكانية ذلك. لماذا؟ - "لأن الجمهور الفرنسي طيب وسترون كيف سيتراكض الناس على حفلاتي في الاولمبيا، في الربيع المقبل". في انتظار ذلك تقول فانيسا، انها واثقة من ان احتفالها بعيد ميلادها، العشرين، في الثاني والعشرين من كانون الاول ديسمبر المقبل، سيكون مناسبة للوصول الى "المصالحة" النهائية بينها وبين جمهورها الفرنسي!! ف "باريس هي، على اي حال، المدينة التي احبها اكثر من اية مدينة اخرى. بعدها احب نيويورك - تقول فانيسا - فهي المدينة التي تغيب فيها كل الحسابات. لكن ما لفت نظري هو ان الاميركيين يتواصلون في ما بينهم باكثر مما نتصور. انهم طيبون وبسطاء، يحدثك الواحد منهم دون ان يتفرس فيك من رأسك حتى قدميك كما يفعل الفرنسيون…". اليوم، على عتبة العشرين تطرح فانسيا على نفسها السؤال: الى اين؟ وماذا بعد ذلك؟ وتقول: "ان كل الامور تبدو بالنسبة الي وكأنها تسير بسرعة، بحيث اقول لنفسي احيانا: افلا ينبغي الفرملة بعض الشيء؟". ولكن هل هذا في مقدورها الآن، بعدما بدا وكأنها تخوض اللعبة حتى منتهاها؟ - "هذا صحيح، تقول فانيسا، ولكني سوف ابذل كل جهدي بحيث اظل فنانة ولا اتحول الى ظاهرة" وهي بهذا تشير الى ما يحاوله البعض من تشبيهها حينا بآديث بياف وحينا ببريجيت باردو، وهي ترد على هذين التشبيهين بقولها: "غريب امر الناس، انهم يحاولون دائماً استعادة حنينهم الى الماضي من خلال اسقاط صوره على الحاضر. انا شخصيا لا اشعر انني اشبه احدا. انا انسانة من لحم ودم، من بنات نهاية القرن، احب الغناء والتمثيل واحاول ان اكرس لهما ايامي وحياتي، ولا اشعر ان لي ادنى علاقة بهاتين الفنانتين اللتين اكن لهما، على اي حال، اعجابا كبيرا. لقد بدأت كل منهما كأسطورة اما انا ففنانة لا ازال اشعر بالخوف كلما جابهت صحفيا او كاميرا تلفزيونية او واحدا من المعجبين…". ولمناسبة الحديث عن المعجبين تقول فانيسا، انها تفضل الا تخوض الصحافة في شؤون قلبها، فتلك شؤون "لها حميميتها ويجب ان تكون لها قدسيتها"، وتهزأ من الذين يواصلون الحديث عن حكاية علاقتها مع المغني الشاب فلوران باني الذي ربما كان ثمة ود بينهما في البداية، غير ان الحكاية انتهت عند ذلك الحد لأن فلوران، كما يبدو، لا يرغب في الارتباط بفانيسا بعد ان فاقته شهرة، ويرفض ان يصبح مجرد خطيب للنجمة يحمل حقائبها ويلاحقها من مكان الى آخر… وهكذا خلا قلب فانيسا، كما تقول هي نفسها، بعد انقضاء تلك العلاقة، وعادت الصبية، المولودة قبل عشرين عاما في "فيلييه سور مارن" في الضاحية الباريسية، لتهتم بفنها وحياتها العملية، خاصة وانها الآن تعيش منعطفا كبيرا، فحواه السؤال: عماذا ستتمخض الشهور المقبلة؟ هل سيستعيد الجمهور الفرنسي ثقته بها؟ والجمهور الاميركي هل سيؤمن بأنها فنانة، ويكف عن البحث عن باردو جديدة من خلالها؟