الشاعر السعودي يقف فوق مكان عزيز على قلوب الشعراء العرب، ففي هذه البوادي والبطاح والمدائن الآمنة، لهج الانسان بأول كلمة عربية، وفي ساحات مكةالمكرمة انطلقت العربية من متشابه كلام القبائل مسقطة المتنافر من هذا الكلام، ومعتمدة لهجة قريش نواة للغة هي الآن اقدم لغات العالم المستمرة في حيويتها. أليست مسؤولية ان ينتمي الشاعر الى هذا المكان الغني بحضارة الشعر والذي هو في مقدم الامكنة في الذاكرة الشعرية العربية؟ من هذا المكان صدر الشعر الجاهلي ومعلقاته السبع او العشر، وطلع الشعر في صدر الاسلام بمعان بعيدة عن الغواية، وترسّل الشعر الاموي لدى بني عذرة واشباههم يقطّر حباً ووفاء ولدى ابناء الحضر يعبر عن الحياة الجديدة، ايام العرب بدأوا يحكمون العالم المعروف. واستمر ذلك المكان واستمر شعراؤه جديرين بأسلافهم، فماذا عن آخر الورثاء في مكان الشعر الاقرب الى كل عربي وناطق بالعربية، ونعني بهم شعراء الحداثة في المملكة العربية السعودية؟ "الوسط" التقت ثلاثة مثقفين سعوديين، واستطلعت معهم خريطة الشعر الحديث في المملكة، منطلقة من رصد بيوغرافي يشير الى ثلاثة أجيال متعاقبة في الشعر السعودي خلال القرن العشرين: - الجيل الاول بدأ من عام 1917 ويمثله عبدالوهاب آشي ومحمد سعيد العمودي ومحمد عرب وأحمد العربي ومحمد حسن عواد وحمزة شحاتة وعبد بلخير وغيرهم. - الجيل الثاني بدأ النشر اواخر الثلاثينات، ويمثله حسن عرب وحسين سرحان ومحمد حسن فقي وأحمد قنديل ومحمود عارف وحسين سراج وطاهر الزمخشري ومحمد فهد العيسى والأمير عبدالله الفيصل وحسن القرشي وغيرهم، وتميز هؤلاء الشعراء بالمزيد من الانشغال بقضايا العصر، وخصوصاً تلك المتعلقة بالعالم العربي. - الجيل الثالث بدأ النشر في الستينات ورموزه ما زالت حتى اليوم مستمرة العطاء، ومن هذا الجيل: غازي القصيبي ومحمد العلي وعلي الدميني وسعد الحميدين وصالح الصالح وأحمد عائل فقيه وفوزية ابو خالد وخديجة العمري ومحمد جبر العربي. هذا الجيل تفاعل مع الشعراء العرب الآخرين، والقضايا التي واجهتها المنطقة ومن أبرزها هزيمة حزيران يونيو 1967 والحرب العراقية الايرانية وحرب لبنان، منطلقاً من حساسية شعرية تطول الانسان العربي. عبدالله الغذامي الناقد عبدالله الغذامي الذي وضع اول دراسة علمية عن ملامح القصيدة السعودية الحديثة، قال لپ"الوسط": "القصيدة الحديثة في السعودية تجربة شعرية تواكب القصيدة الحديثة في كافة ارجاء الوطن العربي. وإن كان التجربة من حيث تاريخها تعود الى محاولات محمد حسن عواد في الثلاثينات من هذا القرن، الا ان هذا التاريخ لا يعني مجرد السبق الزمني بل يعني مواكبة التجربة الشعرية المنبثقة في ذلك الوقت من مصر من خلال مجلة "ابوللو" ومدرسة "الديوان". ودخلت التجربة الشعرية السعودية بعد ذلك الهاجس الرومانسي الذي تسيّدته قصائد حسن القرشي وطاهر الزمخشري ومجموعة من الشعراء جعلوا الرومانسية عالماً يدورون حوله. ومن هنا صار لدينا وجهان للقصيدة في المملكة العربية السعودية: وجه يعتني بالشكل المتحرر كما عند عواد، وان التزم بالمضمون القديم، ووجه آخر جعل الرومانسية عالمه. وانحصرت كتابة الشعر في هذين البعدين. ومنذ السبعينات بدأ التحدي الشعري التجريدي يأخذ دوره في مواجهة الذات من حيث كتابة القصيدة، فجاءت النماذج الجديدة لتزيد صياغة الجديد اجادة، وجاءت الحداثة بوجهها الابداعي الذي ظل عقداً كاملاً يحاول ان يوجد لنفسه موقعاً، لكن هذا الموقع كان صعب المنال لأن البعض رأى، آنذاك، في الشعر الحديث خطراً على القصيدة العربية وعلى لغة الضاد، وربما يهدد واحداً من الاسس التي يقوم عليها المجتمع. وظلت الامور تسير على هذا النحو: شعراء جدد يكتبون وجوّ اجتماعي رافض. الى ان جاءت الثمانينات وفيها برزت الاسماء بقوة اكبر وبجرأة اوضح، ووقف النقد الى جانب القصيدة فشكل تياراً له ملامحه الواضحة، وصار الابداع يبحث عن مصداقيته في النقد، والنقد يعلن عن حقيقته في الابداع. مثلت الثمانينات، في هذه الحالة، ابرز عقود القصيدة الجديدة في السعودية. لكن هذا لا يعني قبول الشعر الحديث فلا يزال قطاع كبير يرفضها ويرى فيها خطراً، ويعتبر البعض الآن انه تم القضاء على الحداثة في الشعر السعودي، ويعتبر ذلك انجازاً مهماً". الصمت السريع ويوجه عبدالله الغذامي انتقاداً الى الحركة الابداعية الشعرية الجديدة في السعودية، "فالشعراء السعوديون قصيرو النفس. والشاعر منهم يظهر قوياً ومبدعاً ومتميزاً لسنوات محدودة ثم يتراجع بعدها الى الصمت". ويضرب مثلاً على ذلك بمحمد الثبيتي صاحب ديوان "التضاريس"، لكنه يؤكد في المقابل استمرار شعراء آخرين مثل سعد الحميدين وعلي الدمني وعبدالله الزيد وأحمد الصالح، ويضيف: "لكن المعضلة هنا ان صمت بعضهم وانسحاب البعض الآخر اثر على الحركة بمجملها، ولا ينقذ الحركة وجود افراد ظلوا يبدعون ويكتبون، لأن اي تيار لا يظل على قوته وتأثيره الا باستمراره وتنامي عناصره، من حيث تطوره الذاتي ودخول عناصر جديدة فيه. وعدم توفر هذا الشرط عاد بنا من جديد الى التميزات الفردية وحرمنا من الدفعة المدرسية الواحدة كما حصل في الثمانينات". ما سبب التراجع في رأيك؟ - "المسألة تحتمل عدة وجوه، احدها الهجوم على الحداثة، فاذا افترضنا هذا فذلك معناه ان شاعر الحداثة عندنا هش الى درجة تجعله يتكسر امام اول هبة ريح، ولكن التاريخ يعلمنا وتاريخ الابداع خصوصاً ان الرفض يزيد المبدع ابداعاً واصراراً. وابحث عن اي مبدع ستجده تعرض الى هجوم شرس لكنه تجاوزه في كل مرة متفوقاً". وعما اذا كانت القصيدة الجديدة في السعودية تجاوبت مع المتغيرات التي شهدها المجتمع قال الغذامي: "القضية هنا لا يمكن التعامل معها معزولة عن الواقع العربي العام، لأن القصيدة الحديثة في السعودية قصيدة عربية في لغتها وسياقها ومبدعها وقارئها، ولذا فان علاقاتها مرتبطة بسياق القصيدة العربية الحديثة، بحيث ان قصائد عبدالله الصيخان وقصائد أمل دنقل تأتي في ديوان واحد هو ديوان الشعر العربي الحديث. ولا يكون الصيخان في هذه الحالة مجرد سعودي وأمل دنقل مجرد مصري، انما الاثنان معاً عربيان، ومن هنا فان القدس وقبة الصخرة واطفال الحجارة هي موضوعات للشاعر السعودي وليست للفلسطينيين فحسب. وقد كتب الشاعر احمد الصالح قبل عشر سنوات قصيدة في عنوان "انتفضي ايتها المليحة" ومن يقرأها اليوم دون ان يعلم تاريخ كتابتها سيظن انها كتبت بعد الانتفاضة، وهذا معناه ان الشاعر احس بأرض فلسطين وشعبها وحجارتها، ولذلك خاطبها بهذا المطلب الشعري النبيل "انتفضي ايتها المليحة". وبعد عشر سنوات من الطلب انتفضت المليحة. الشاعر يدافع الشاعر محمد الثبيتي بدأ حديثه لپ"الوسط" بنوع من البوح الشعري سبق ان استهل به ديوانيه المطبوعين، قال: "الشعر مغامرة، وكل قصيدة جديدة هي مغامرة جديدة. لقد بدأت من مرحلة التكوين والتساؤل، وانتهيت بأن اصبحت القصيدة عندي استشرافاً للمستقبل وقراءة للواقع! القصيدة عندي بايجاز شديد هي الدهشة والتأمل. ان لقاء الشكل والمضمون وامتزاجهما لولادة رؤيا رائعة هو الشعر الحديث. وأنا اكتب لقارئ افترض فيه درجة معينة من الوعي بواقعه، لذلك فان تفكيري به يقوم على هذا الاساس". ويرفض الثبيتي اتهام شعراء السبعينات وما بعدها بأنهم لم يعبروا تماماً عن مجتمعهم، يقول: "بالعكس، فشعراء السبعينات والشعراء الجدد كانوا اكثر التصاقاً بالهموم والمتغيرات المستجدة في المجتمع وأضافوا كثيراً للقصيدة". لكنك توقفت، او على الاقل تراجع انتاجك لفترة طويلة؟ - ابداً لم تحدث انتكاسة، كتبت وما زلت اكتب، صحيح توقفت اربع سنوات، لكني اعتقد ان ديوانين في 15 سنة معقولان جداً. همي ليس الكتابة اليومية ولكن ان اكتب شيئاً يواكب القصيدة العربية. ويُرجع الثبيتي عدم انتشار الشعر السعودي خارج حدوده الاقليمية على رغم جودته الى الاعلام، ويضيف: "شعراء كثيرون طبعوا دواوينهم خارج السعودية لكنهم ايضاً لم يعرفوا خارج حدودها، وبشكل عام فان الشعر الحديث لم يجد ارضيته المناسبة بين الجمهور القارئ". وعن علاقة النقد بالشعراء في السعودية يقول: "النقد متخلف كثيراً عن الشعر، يوجد نقاد كثيرون لكنهم لم يدرسوا تجاربنا بشكل جيد، نحن نحتاج الى ناقد يتناول كل الاعمال المطروحة خلال فترة زمنية معينة ويرصد كل الاسماء على الساحة الشعرية، لكن النقد مقصر جداً ويهتم اكثر بالتنظير ولا يعنى بتفسير النص". جيل الشباب يرصد من جيل الشباب يرصد عبدالمحسن يوسف واقع الشعر السعودي من خلال رؤيته الخاصة: "لست مع الرأي القائل بعدم مواكبة الشعر السعودي للمجتمع، ثم لماذا هذه الحدية التي تنتج حكماً قاطعاً: "ليس مواكباً…"؟ ليس من مهمة الشاعر ان يجعل نصه انعكاساً مباشراً كمرآة للحدث الاقتصادي او الاجتماعي. كما ان الشاعر ليس باحثاً اجتماعياً حتى يبادر الى البحث في جذور الاشكالية، الشاعر يحتاج الى وقت ليحيل الحدثي والزمني الى تاريخي، كما يحتاج ان ينأى بنفسه قليلاً كي يرى جيداً، أوليس الشاعر ايضاً جزءاً من التحولات الاجتماعية؟". لماذا لم ينتشر الشعر السعودي الحديث خارج حدود المملكة؟ - الامر يعود الى اسباب عدة… فعلى رغم الاصوات الطالعة من الوهج، وعلى رغم غناها الابداعي وتعدديتها، الا انها لم تجد حتى الآن المنبر المتخصص الذي ينقل ملامحها وأحلامها وأمطارها الى الآخر العربي. حتى الآن ليس ثمة مجلة متخصصة في الشعر او النقد او القصة على غرار "فصول" او "ابداع" او "الشعر" او "كلمات" او "الكرمل" او "مواقف". حتى الآن ليس لدى الصوت المبدع لدينا سوى الملاحق الثقافية التي تصدرها الصحف اليومية مما يجعل العمل الابداعي خاضعاً لشروط الصحافة اليومية. والشعراء التقليديون لدينا كانت لهم فرصة المشاركة عبر المنابر الادبية والمهرجانات الثقافية العربية ردحاً من الزمن، الامر الذي جعل الصوت الجديد يقبع في الظل. وحول اشكالية "النقد - الشعر"، يقول عبدالمحسن يوسف: "لدينا عدد من النقاد المتميزين حقاً، كالسريحي والغذامي والعلي والحازمي والبازعي والصيبني، يمتلكون ادوات نقدية متقدمة، ومناهجهم، على تعددها، تعد مناهج علمية اجرائية، وفي هذا معنى الخلاص من النقد المعياري والانطباعي الذي كان سائداً. الا ان غواية التنظير اخذتهم بعيداً عن مسألة النص المنجز، باستثناء قراءة انتقائية يسيرة تناولت نصوصاً وكان هذا التناول لدافعين، اما لتقديم القراءة النقدية على منابر الاندية الادبية بدعوة منها، او لتجريب المنهج النقدي الجديد الذي اتخذه الناقد سلاحاً لاختبار مدى صلاحيته. والذي ننتظره الآن هو التطبيق، وممارسة الفعل النقدي على النصوص، نريد دراسات عميقة وجادة تواكب النصوص الابداعية المطبوعة".