تعيش الجزائر هذه الأيام أزمتين في وقت واحد، الأولى اجتماعية اقتصادية، والثانية سياسية. ويشعر الكثيرون من الجزائريين بأن البلاد تقف على مفترق طرق تاريخي وأنها تواجه أشق الاختيارات منذ الاستقلال. ومع ان تحليل عناصر هاتين الازمتين أمر سهل فان الحلول أصعب من ذلك بكثير. اذ ان في وسع المرء ان يشاهد الازمة الاجتماعية - السياسية في الشارع كل يوم وهذا ما لاحظته خلال زيارتي لهذا البلد الشهر الماضي. فهناك اعداد هائلة من الشباب الجزائري الذين يزرعون الشوارع طوال ساعات النهار. فهم من دون عمل ولم يحظوا بقسط وافر من التعليم ويعيشون في مساكن بائسة، ويبدو المستقبل حالكاً امامهم. ولهذا ليس من المستغرب ان يكونوا معادين للنظام الذي تركهم يعيشون مثل هذه الظروف. وهؤلاء هم "المادة الخام" التي بنت عليها الجبهة الاسلامية للانقاذ حركة جماهيرية قوية. ومع ان الجبهة الاسلامية أصبحت محظورة الآن فان الشوارع لا تزال تكتظ بأولئك الشباب. لقد أدى النمو السكاني السريع، ونظام التعليم الواهي وانهيار اسعار النفط في اواسط الثمانينات الى حدوث أول انفجار شعبي في شهر تشرين الأول اكتوبر عام 1988، عندما اطلقت قوات الأمن النيران على المتظاهرين فقتلت المئات منهم. وإثر ذلك جاءت حكومة جديدة الى السلطة ووعدت باجراء اصلاحات. ومن سوء حظ الجزائر ان الوضع الاقتصادي سيظل لسنوات عدة مقبلة لا يبشر بالخير. اذ ان حوالي 75 في المئة من عائدات الصادرات في العام المقبل ستذهب الى تسديد الديون الخارجية، مما يعني انه لن يظل لدى الحكومة ما يكفي من العملات الصعبة لدفع ثمن الواردات، وبالتالي فانها ستحتاج الى الحصول على المزيد من التسهيلات الائتمانية القصيرة الأجل مما سيزيد من عبء الديون على كاهل البلاد. وإذا ما أسعف الحظ الجزائر وارتفعت اسعار النفط وقويت قيمة الدولار فان الجزائر ستجتاز، بحلول عام 1995، اعسر مشكلات ديونها. ولكن السؤال هو: هل امام الحكومة مهلة ثلاثة عوام؟ إن ما يجذب انتباه اي مراقب خارجي - لا سيما مثلي لأنني عرفت الجزائر لأول مرة قبل خسمة وعشرين عاماً - هو ان قسماً كبيراً من السكان يتمتع على ما يبدو بمستوى عالٍ من المعيشة. اذ انك تشاهد جنباً الى جنب مع العاطلين عن العمل زبائن مختلفين يشترون ما يحلو لهم من المتاجر ويقودون سيارات فخمة ويعرضون ثروتهم بطرق كانت نادرة خلال سنوات السبعينات التي كانت اكثر تقشفاً. كما ان الهوّة بين الأغنياء والفقراء تغذي قصص الفساد وتساهم في تعزيز الانتقادات اللاذعة والساخرة للحكومة ووعودها. والمشكلة السياسية حادة ايضاً. لكن الجزائر، على خلاف بعض الدول العربية الاخرى، فيها قدر اكبر من النقاش السياسي المفتوح. ففي وسع المرء ان يسمع جميع وجهات النظر والآراء، كما ان الصحف حرة نسبياً في توجيه الانتقادات الى الحكومة. ومع ان الجبهة الاسلامية للانقاذ محظورة الآن فان آراءها معروفة جيداً كما ان الناس يناقشونها بحرية. كذلك تعمل الاحزاب السياسية الاخرى علانية مع ان فعاليتها غير كاملة. ويبدو ان المجلات والمنشورات الاسبوعية الناقدة والساخرة التي تسخر من جميع السياسيين هي الوحيدة التي تحظى بأعداد كبيرة من القرّاء. وبعد أزمة تشرين الأول اكتوبر 1988 لجأت الحكومات المتعاقبة الى تجربة التحرر السياسي والاقتصادي انطلاقاً من شعورها بأنها لا تستطيع العودة الى نظام الحزب الواحد السابق من جهة، ونتيجة حسابات سياسية معقدة تهدف الى التعطيل على الخصوم السياسيين. وكانت نتيجة التحرر إضعاف الدولة وزعزعة مكانة جبهة التحرير الوطني، وانتشار الاحزاب السياسية على نطاق واسع وإجراء انتخابات من دون اعداد جيد لها. كيف التعامل مع جبهة الانقاذ؟ وأدت انتخابات كانون الأول ديسمبر عام 1991 الى ازدياد حدة الازمة السياسية مع ان الهدف من تلك الانتخابات كان حل الأزمة. وعندما فازت الجبهة الاسلامية للانقاذ بالجولة الأولى ظهرت مدرستان بين السياسيين الجزائريين المعادين للجبهة. اذ ان البعض منهم، وبينهم الرئيس الشاذلي بن جديد وحسين آيت احمد والرئيس السابق احمد بن بيلا شعروا بأنه يجب الاستمرار في الانتخابات حتى ولو فازت الجبهة الاسلامية بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية. ورأى هؤلاء ان الرئيس والجيش سيحتفظان على رغم كل ذلك بما يكفي من السلطة للسيطرة على الأمور وإجبار الجبهة على قبول المشاركة في الحكم مع غيرها. إلا أن الآخرين في المؤسسة السياسية، لا سيما الجيش، كانوا مصممين على منع وصول الجبهة الاسلامية الى السلطة. وكان البعض منهم يخشى من وقوع حرب اهلية، بينما شعر البعض الآخر ان الجبهة حزب فاشي ولذا يجب عدم السماح له باستخدام الوسائل الديموقراطية لتدمير العملية الديموقراطية. ولا داعي للقول ان هذا الرأي المتشدد تجاه الجبهة كانت له الغلبة. وهكذا ألغت السلطات الانتخابات وأعلنت حظر الجبهة، كما منعت التظاهرات وجاءت حكومة جديدة الى الحكم. وعاد محمد بوضياف من منفاه في المغرب ليتولى رئاسة البلاد، ولكنه اغتيل في نهاية حزيران يونيو الماضي، أي في الوقت الذي بدأ يرسي قاعدة قوية من التأييد الشعبي له. وهكذا، نرى الجزائر الآن وهي تحاول الخروج من ازمتها السياسية عن طريق انتهاج مجموعة جديدة من الاجراءات مثل: محاربة الفساد والارهاب، وإغلاق معسكرات الاعتقال في الجنوب، وبانتهاج خط متشدد تجاه الصحف المستقلة، والوعد باجراء حوار مع الاحزاب السياسية على ان يستثني ذلك الجبهة الاسلامية كلياً. اما بالنسبة الى الازمة الاجتماعية - الاقتصادية فقد اعلنت الحكومة خطة معقدة تحمل بصمات رئيس الوزراء بلعيد عبدالسلام. وتمثل هذه الخطة في لهجتها ومضمونها العودة الى عهد الرئيس الراحل هواري بومدين مع بعض التحرر الاقتصادي. وبشكل عام فان الجزائر بدأت تعود الى الاقتصاد الخاضع لقرارات الحكومة لا الى قوى السوق. وهناك منطق يؤيد هذه العودة ولكن الكثيرين يختلفون مع هذا المنطق. غادرت الجزائر وأنا اشعر بقلق بالنسبة الى المستقبل. فالحكومة الجزائرية الحالية قد تكون اكفأ حكومة تعرفها الجزائر منذ استقلالها، الا ان المشكلات التي تواجهها هائلة وعويصة. ومع ان الحكومة تركز الآن على استعادة الأمن والنظام وإنعاش الاقتصاد ومحاربة الفساد، فان المرء لا يشعر بوجود استراتيجية سياسية تهدف الى اقناع أولئك الشباب الذين يذرعون الشوارع كل يوم بتأييد الحكومة وإتاحة الوقت لها لحل المشكلات. ولا يزال الحكم حتى هذا اليوم في أيدي أولئك الذين خاضوا الثورة وعملوا مع بومدين على تأسيس دولة قوية. وهم مصممون على ان تكون الجزائر جزءاً من العالم الحديث لا ان تكون ايران اخرى أو بوسنة او لبنان آخر. فالحكومة تتألف من ديموقراطيين على مضض يؤمنون بأن على الدولة ان تقدم الاجابات والحلول لمشكلات المجتمع، ولذا فهم يؤمنون بتأييد الشعب. وهم ينصتون ويسمحون بقدر من النقاش والنقد، ولكنهم سيحاربون حتى النهاية لكي يمنعوا الجبهة الاسلامية للانقاذ من الوصول الى السلطة. وأنا شخصياً، آمل في ان تنجح الحكومة في انعاش الاقتصاد وتنظيم البيروقراطية وتطهيرها واستعادة الاستقرار مع المحافظة في الوقت نفسه على نظام سياسي مفتوح نسبياً. الا انني لا ارى في الوقت الراهن أي فرصة للنجاح على المدى المتوسط الا اذا تبنت استراتيجية سياسية صريحة واضحة لكي تفتح باب النظام امام ملايين الناس الذين صوتوا للجبهة الاسلامية للانقاذ نتيجة شعورهم بالاحباط واليأس. لكن هذا البعد السياسي مفقود حالياً في الجزائر. * مستشار الرئيس الأميركي السابق كارتر وخبير اميركي بارز في شؤون الشرق الاوسط.