دائماً ما تفلت"الطائفية"من أن يتم تصورها كظاهرة سياسية، فهي دائماً تُطرح وتُناقش عبر خلطها بظواهر أخرى قد تكون مرتبطة بها، لكنها متمايزة عنها من ناحية جوهرية. فالطائفية شيء، والكراهية المذهبية، وعدم التسامح الاجتماعي شيء آخر. وفقط عبر الفصل بين هذه الظواهر - المتداخلة في ما بينها - يمكن استعادة تصور الطائفية بوصفها ظاهرة سياسية بالمقام الأول، ثم فهم كيف أنها ما إن توجد في مجتمع، فإنها تترافق دوماً مع الهيمنة الأجنبية. الكراهية المذهبية هي نوع من أنواع التعصب. هي تعصّب لرأي أو اعتقاد وليست تعصّباً لجماعة، هي بهذا التصوير حال نخبوية، محصورة بين شيوخ المذاهب وعلمائها، ذلك أن شرط تحققها هو التعمق في المذهب بعد اعتباره حقاً والنظر لغيره من المذاهب باعتبارها باطلاً. إن الكراهية المذهبية تنبع من ثنائية الحق والباطل، وليست من ثنائية نحن وهم. قد يكون من أحب رفقته مخالفاً للحق الذي أعتقده، وقد يكون آخر لا أطيقه متفقاً معي. فالعداوة والصداقة لا تنبثقان بالضرورة من الاعتقادات. هذا التعصّب المذهبي له تراث مذهبي ضخم، ولهذا السبب التحديد هو مصدر لا ينضب لاستصدار خطابات طائفية مليئة بالتحريض والتجييش والكره. هذا في ما يتعلق بالكراهية المذهبية، أما في ما يتعلق بالتسامح الاجتماعي، فهو مرتبط بقضية العنصرية. هناك جماعات عنصرية ضد أخرى، وهذه العنصرية قد تكون بناء على أي شيء: فقد يتعامل مواطنو بلد ما بعنصرية تجاه الوافدين إذا كانت معدلات البطالة عالية عند المواطنين، وقد يتعامل سكان المدن بعنصرية ضد سكان الأرياف، وقد يتعامل البيض بعنصرية ضد السود... إلخ. هذه العنصرية قد تكون ممأسسة فتؤثر على الفرص الوظيفية والتعليمية والرقي الاجتماعي، وقد تكون عابرة، وهناك من يمدد مظاهر العنصرية بحيث تشمل العلاقات التعاقدية - العمل، التعليم... إلخ - والعلاقات التواصلية - الزواج، الصداقة، السكن... إلخ"وهناك من يقصرها على الأولى ومبرراً الثانية. المهم هنا أن العنصرية ظاهرة اجتماعية تنبع من مشكلة المساواة، أي أن مجموعة من الناس تبدأ بممارسات عنصرية تجاه مجموعة أخرى عندما تتم مساواتها بها، فالممارسات العنصرية ضد اليهود في أوروبا لم تكن ظاهرة عندما كان اليهود يعيشون في"غيتوهات"، لكن ما إن تم إعلان المراسيم التي تحول اليهود إلى مواطنين كغيرهم من المسيحيين، إلا وبدأت مثل هذه الظواهر بالظهور. دائماً ما يتم الخلط بين هاتين الظاهرتين، وظاهرة الطائفية، فالطائفية لا تحتاج بالضرورة لخطاب كراهية، كما أنها لا تنبع من مساواة اجتماعية بين مجموعات متعددة من السكان، ولا تتمثل بالضرورة في ممارسات عنصرية. وعلى رغم ذلك، إلا أنها دائماً ما كان وجودها مترافقاً مع هاتين الظاهرتين ما جعل التمييز بينها أمراً صعباً. الطائفية ظاهرة سياسية، تقوم بتسييس المذهب الديني. تسييس المذهب الديني يعني تحويل أتباع المذهب من أشخاص ذوي قناعات دينية محددة يتشاركون ممارسات اجتماعية دينية معينة، إلى جماعة سياسية تعتمد المذهب هوية سياسية وليس فقط معتقداً دينياً. الطائفية هي تحويل المذهب إلى إثنية. تحويل المذهب إلى إثنية لا يقتضي إعلان كراهية الطوائف الأخرى، كما أنه لا يقتضي تحويل العلاقة بين الطوائف إلى علاقة عنصرية. نحن نستطيع أن نتخيل مجتمعاً يتكون من طوائف تتواضع فيم بينها على آلية محددة في إدارة علاقاتها مع بعضها البعض من دون كراهية ولا عنصرية. ما لا يمكن تخيله هو وجود دولة مكونة من طوائف من دون أن يوفر ذلك بيئة خصبة للتدخلات الخارجية، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الطوائف تقسيم للوطن، قد ينقسم الوطن لأحزاب، أو لطبقات، لكن هذه التقسيمات تختلف عن أن يكون منقسماً إلى طوائف في كون الأخيرة تدمر أساس العلاقة"مواطن ينتمي إلى أمة"لتحولها إلى"مواطن ينتمي إلى طائفة"، بلغة أخرى الطائفية تقسيم للوطن على أساس الهوية. عندما يتم تقسيم الوطن على أساس الهوية، يصبح الذي يجمع بين أتباع طائفة ما وأتباع الطائفة الأخرى من الوطن نفسه مشابهاً للذي يجمعهم بأتباع أي طائفة أخرى خارج الوطن، ويصبح كذلك ما يجمع أتباع طائفة ما داخل الوطن وأتباع الطائفة نفسها خارجها أكثر بكثير مما يجمعها بالطوائف الأخرى داخل الوطن. فما يجمع السني العراقي مع السني السعودي أكثر بكثير مما يجمع السني العراقي بالشيعي العراقي. هذه الحال تفتح الباب على مصراعيه لدول أخرى أن تتدخل في سياسة هذا البلد الطائفي تحت يافطة"حماية الطائفة من الطوائف الأخرى"ولا تجد الطائفة نفسها أي حرج في التعاون مع الحليف الخارجي ضد الطوائف الأخرى داخل البلد، ذلك أن المنطق الطائفي ما إن يعمل حتى يدمر كل مشترك وطني أو قومي. ومن هذا المنطلق تصبح القومية - أي الرابطة الحديثة العابرة لتسييس الهويات التقليدية - لا تقوم فقط بتجاوز الطائفية من أجل توحيد أبناء المجتمع الواحد والقضاء على مظاهر التعصب والكراهية التي فيه، بل هي بالمقام الأول حل سياسي يتيح المجال لبلد ما - كالعراق أو لبنان مثلاً - لأن يستعيد سيادته ويقطع الطريق أمام أي محاولة تدخل من الخارج. * كاتب سعودي. [email protected]