لم يعد الحديث عن مشاريع التفتيت الخبيثة بالوطن العربي، في خانة التنظير، بل بات واقعا معاشا، منذ احتلال العراق عام 2003م، وتدشين عملية سياسية على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية. وقد وضعت تلك العملية المدماك الرئيس، في مشروع الشرق الأوسط، الهادف إلى تذرية الكيانات الوطنية العربية، استنادا على استعادة الهويات الطائفية والعرقية، وما قبل التاريخية وقد استمرت هذه المشاريع في خط بياني متصاعد، بلغ أوجه، قبل خمس سنوات، مع اشتعال ما صار متعارفا عليه بالربيع العربي. ولعل الأخطر في عملية التفتيت، ليس تفتيتها الكيانات الوطنية فحسب، بل تمزق المجتمع العربي، وانحيازه في ولاءاته، وتغليب انتماءاته الطائفية، على انتمائه الوطني، والتعبير عن ذلك باشتعال حروب أهلية بين الطوائف، في عدد من الأقطار العربية، قضت على الأخضر واليابس، ودمرت ما شيد من بنى تحتية، وأعادت تلك البلدان، إلى ما يقترب من أنماط العيش بالعصر الحجري. يميز في هذه القراءة، في رفضنا الطائفية، بين الالتزام بمذهب فقهي من المذاهب الإسلامية المعروفة، واعتماده قاعدة في فهم العبادات والطقوس والمواريث، وتحول هذا المذهب إلى ثقافة وهوية خاصة حاضنة لأتباع المذهب. فالمذهب في الحالة الأولى هو التزام عقدي، أما في الثانية فإنه يضع الأتباع باستمرار في مواجهة الآخر، ويوجد ثقافة، وهوية تشكل متراساً، يحول دون الاندماج في المجتمع وثقافاته وهويته، وبالتالي يوجد هوية مغايرة لهوية الوطن. إن تمييزنا بين الالتزام المذهبي، والتوجه الطائفي، ليس اعتباطياً، بل هو أمر جوهري وأساس لقراءة الآثار التخريبية، للطائفية على الوحدة الوطنية والانتماء للأمة. فالأول يضيف إلى حصة الوطن والأمة، أما الآخر فيأخذ منهما، ولا جدال في أن المذاهب الإسلامية وإفرازاتها الفكرية والفلسفية قد أثرت الفكر العربي الإسلامي، وأسهمت في تخصيبه، بينما أدى استثمار تلك المذاهب - لأغراض سياسية - إلى تحويلها الى بؤر للصراعات والفتن في دار الإسلام. وكانت تكاليفها باهظة للإسلام والمسلمين، حيث سقطت بفعل الصراعات، وعوامل أخرى ذاتية وموضوعية دولة الخلافة، وتعطل الدور الحضاري للعرب، وتفتتت دار الإسلام إلى ممالك وأقاليم. الانتقال بالمذهب من وسيلة إلى فهم فقه وأصول الدين إلى ثقافة وهوية قد جعل من المذاهب اسفيناً في خاصرة حضارة العرب والمسلمين. فقد تحلقت كل طائفة حول نفسها، وكفرت غيرها، ورفعت راية المطالبة ب "حقوقها"، سعياً وراء نيل الحصة الأكبر، وفي ظروف كهذه غاب الفعل الجمعي للأمة. في العصر الحديث، استغل الاستعمار التقليدي هذه الطوائف، لمنع نشوء مقاومة لاحتلاله، تحت خيمة الوحدة الوطنية. وكانت تجربة البريطانيين - بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ - قد أوحت لهم بأن مواجهة الحركات المطالبة بالاستقلال لا يمكن أن تحسم بالسلاح وحده، وأن تفتيت الحركات الوطنية هو السبيل لإنجاح مشروع الهيمنة، فكان تعميم شعار "فرق تسد". في لبنان، أقام الفرنسيون كياناً سياسياً يعتمد القسمة بين الطوائف، وكان نتيجة ذلك غياب المشروع الوطني، وسعي زعامات كل طائفة لمضاعفة حصتها في القسمة، وتغليب ذلك على قضايا أخرى ملحة، كتحقيق التقدم وتنمية الموارد وإشاعة روح الألفة وتعميق مفهوم المواطنة. والأخطر من ذلك بكثير، أن البلاد لم تنعم منذ استقلالها حتى تاريخه بحقبة طويلة ومستمرة من الأمن والهدوء والاستقرار. ورأينا ذلك أيضاً في العراق، حين شكل المحتل عملية سياسية، عرجاء ومشوهة، جعلت من بلاد الرشيد اتحاداً طائفياً وإثنياً هزيلاً لكيانات لا تربطها رابطة بتاريخ العراق العريق، ولا بأمجاده.. طوائف تستمد قوة حضورها من تماهيها مع مشاريع خارجية، دولية وإقليمية، ما غيب العنصر التوحيدي، وكرة الوطن الواحد. في أوضاع كهذه، تغيب فكرة التنمية الشاملة، والتكامل الاقتصادي، ويتم تقسيم الوطن إلى كانتونات ضعيفة، يستند كل كانتون على هويته الخاصة، وثقافته الخاصة، وحتى المراكز الرئيسة في الدولة من وزارات، وجيش وشرطة، يتم تقسيمها وفقاً لسياق المحاصصات. وبالقدر الذي تتعزز فيه القسمة، وتترسخ فيه الهويات الطائفية والإثنية، بالقدر الذي يضعف فيه دور الحكومة المركزية، وتفقد هيبتها وقدرتها على إدارة شؤون الدولة والمجتمع. وإذا كان هذا النوع من المحاصصات والقسمة مقبولاً قبل نشوء الدولة الحديثة، فإنه بالتأكيد لا يمكن قبوله الآن، كونه ضد التطور التاريخي، وما أفرزته مسيرة البشرية من آليات وأدوات ومؤسسات حديثة في الحكم. وليس بالمستطاع أبداً تصور قيام نظام تعليم متطور، أو النهوض بالقطاع الصحي، أو التأمينات والضمان الاجتماعي، في ظل أنظمة القسمة الطائفية، بل ليس بالمقدور، إمكان قيام دولة عصرية، أو الحديث عن الوحدة الوطنية في ظل سيادة نظام الكانتونات الطائفية والإثنية. كما أنه من غير المتوقع، صمود كانتوت القسمة في التصدي لأي عدوان خارحي، فضلاً عن اتفاقها على مواجهة هذا العدوان. ونافلة القول: إن تفتيت الجزء وتشظيه ينتج عنه متواليات تقسيمية وتجزيئية على مستوى الوطن العربي بأسره. فتداعي حبة من السبحة يؤدى - بالتأكيد - إلى تساقط بقية الحبات. ولا يقف الأمر عند هذه الجوانب السلبية للمشاريع الطائفية، فمخاطرها على الوعي لا تقل أثرا عن المخاطر التي أشرنا إليها، فالثقافة الطائفية لديها موقفها الخاص من التاريخ، وهي تفسره بالسياقات التي تعزز هويتها الفئوية. تلتحم الجماعة الطائفية بتفسيرات، دينية من منظورها، كما تلتحم الجماعة بعصبية النسب، في النظرية الخلدونية. تقدم الجماعة الطائفية تفسيرها الخاص للدين، فيكون لها موقفها الخاص من التاريخ، بما يحولها إلى أيديولوجيا خاصة للمنتمين لطائفة بعينها، فتتحول الطائفة إلى عقيدة اجتماعية، تؤدي وظائف في تكوين الجماعة، وفي تحديد أنساق عملها، كجماعة متميزة، ومتمايزة، وتصبح الطائفية هويتها الخاصة، بدلا من هويتها الوطنية. بهذا المعنى، يكون الانتماء الطائفي، في مقام الدينامية التي تتشكل بها الجماعة، وتنظم حركتها، وبهذا المعنى أيضا، تتحدد وظيفة الطائفة باعتبارها وسيطا بين المذهب كيقين، وتجسده الاجتماعي والتاريخي. وهكذا تؤدي الطائفية - بما هي مجموعة اجتماعية - إلى وجود حالة من الالتباس في العلاقة بين الدين والدولة والسياسة، بما يجعل من نقدها كتصور أيديولوجي مشروعا. وللأسف فإن الهويات الطائفية، ليست خارح الوعي، بل إن كثيراً منها صمم ليخدم أغراضاً سياسية، وبعضها نتاج لنوازع ثأرية سكنت عميقاً في نفس أمم اعتنقت الإسلام عقيدة حين بلغتها جحافل الفتح العربي، ودخلت بلادها عنوة في الإسلام. دخلت هذه الأمم الإسلام، وأحنت هامتها للتيار العاصف، لكن انتماءاتها القومية، ومواقفها العنصرية وشعورها بتفوقها على العرب، شكل في اللاوعي، قراءات أخرى، غير موضوعية، متحيزة ومزيفة للتاريخ العربي، طالت رموزاً عظيمة لعبت أدواراً خالدة في نشر رسالة الإسلام. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل طائفة لها رؤيتها الخاصة، وقراءتها الخاصة، وأن هويتها وثقافتها وطقوسها وأحزانها وأفراحها، أخذت في التشكل من خلال هذه القراءة، أمكننا التوصل إلى وجود جملة من القراءات، والنتيجة هي تشويه التاريخ العربي الإسلامي، وتزييف أمجاده. ولأن التاريخ هو روح الأمة، وجغرافيته هي محتواها، فإن تشويه التاريخ العربي، يعني في محصلته تشويه روح الأمة، لذلك يصبح التصدي للطائفية المقيتة دفاعاً عن الأمة ومواريثها ورموزها، كونها في نتيجتها تمثل خطراً جاثماً في البعدين الوطني والقومي. وليس من شك في أن مواجهة الكانتونات الطائفية، تتطلب تعميم نقيضها، والعمل على تعميم فكرة الدولة الحديثة، دولة المواطنة، حيث إن المعيار الأساس فيها هو المساواة بين المواطنين، وتأسيس العلاقات السياسية الحاكمة على قاعدة هذا المعيار. يجب التأكيد في هذا السياق، على أن الانتماء المذهبي يتعلق باليقين وبالمسائل الفقهية. إنه يقع خارج المجالين الاجتماعي والإنساني. أما الطائفية، فإن خطرها يكمن في أنها تحيل إلى جماعة اجتماعية وتاريخية، في حين تتعلق وظيفة الدولة بالزمنيات. فليس هناك تماه تام، بين وظيفة الدين ووظيفة الطائفية، على النحو الذي يزعمه منظرو الطائفية، في دفاعهم عنها. فللطائفية وظيفة سياسية، لا ترتبط بالدين، وإن كان الدين أساسيا في وظيفة اشتغالها، ودورها الأساس تفتيتي، لأنها تقسم الوطن إلى حصص، بينها وبين الجماعات الأخرى. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الطائفية كنظام سياسي، لا توفر حلا لمعضلة السلطة والشراكة، فنتائجها المنظورة، أكدت أنها قنبلة موقوتة للاحتراب الداخلي، وأنها لم تسهم في توفير أي مساحة للتوافق بين أبناء المجتمع الواحد. صحيح أنها تخفي في بعض الأحيان صراعات مكبوتة، لكن هذه الصراعات ما تلبث أن تنفلت في صور أعتى وأمر، بحيث أننا نلحظ تصاعدا مستمرا في الخط البياني، في الصراعات، بين البلدان التي اعتمدت حل التقسيم الطائفي، لمعضلتها السياسية، ثم إن هذا التقسيم، يحمل اعتقادا مضللا بغياب التجانس الوطني، والافتقار للوحدة الوطنية، بما يؤثر على صلابة وقوة هياكل الدولة، وبالتالي على الوظائف المنوطة بها. غلبة الجماعات الطائفية، تصادر الشعور بانتماء إلى كيانية أعلى هي الوطن، الذي ينبغي أن يكون أعلى من نصاب الطائفة، وأرحب من حدودها الضيفة والمقفلة، وذلك ما يسهم في إلغاء فكرة المواطنة، التي لا تحتاج إلى وسيط بين المواطن والدولة. المواطنة علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، وهي لذلك تسقط بوجود الوسيط، أيا تكن ذرائعه، لذلك ترفض الدول الحديثة الاعتراف بوجود جسد طائفي، سياسي أو حقوقي، يتوسط بين المواطن والدولة. إن الحديث عن الحق الطائفي في التربية والتعليم الخاص، والتمثيل في الوظائف وفي الحكومة، على أساس الحصص، يعني أن علاقة المواطن بالدولة ليست علاقة مباشرة، في جميع الميادين السياسية، ويعني في العمق، أن الدولة، لا تقف من المواطنين وحقوقهم وواجباتهم، موقف الدولة الوطنية بالمعنى التام. وهكذا يردد أتباع الطائفة تعبير العيش المشترك، بدلا من المواطنة، بما يعني انفراط الانتماء إلى وطن واحد، كون أفراده لا يشكلون شعبا موحدا، بل جماعات متعايشة في وطن واحد، كما تعيش فصائل وقطعان مختلفة في فضاء غابوي يجمعها. والنتيجة أنه في ظل تصارع الهويات الطائفية، لا وجود لمشروع بناء وطن جديد، يتجاوز صيغة التعايش في المجتمعات القبلية، ويحقق الاندماج الوطني في وحدة مجتمعية عليا. فالمجتمع الذي يقوم على القسمة، هو مجتمع عصبوي، يفتقر إلى الاندماج الاجتماعي، ويؤسس هذا الافتقار لتوليد كيانات ذاتية، تفصل وفق حدود جماعات، تمتلك نظمها الخاصة، ومؤسساتها المستقلة، وأحوالها الشخصية، التي تزيد إمعانا في إضعاف الوحدة الوطنية، وتضعضع دور الدولة. حزب الله اللبناني.. نموذج لتفتيت الدولة وتحديها