في شارع التحلية. أفخم شوارع الرياض، وأغلاها عقاراً. حيث تظهر ملامح صارخة للثراء والرفاهية على جانبيه، باستثناء مشهد وحيد يكسر فخامته، ففي بداية الشارع الشهير يسكن الفقر في مبنى"سكن الوفاء الخيري"، الذي لا يبعد سوى أمتار معدودات عن وكالتين للسيارات الفارهة، وخطوات عشر عن مقر"الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، وبجواره وأمامه أكثر مطاعم التحلية غلاءً، محاطاً بالقصور والفلل الفارهة، بينما تتجول السيارات الفارهة أمامه في كل لحظة. وفي الوقت الذي رُصفت جنبات التحلية بالطوب الأحمر، وواجهات المحال بالزجاج، واتشحت نخلاته بالألوان وكسيت بالورد، صمد"الوفاء"ثلاثة عقود على رغم تجعّد جدرانه، وتبدل بياضها إلى السواد. يزيد ألم هذا السكن وجع قاطنيه، ففي إحدى غرفه ال90 تعيش أم عبدالله مع خمسة من أبنائها في غرفة واحدة، ملأتها الأدوية وأجهزة التنفس، وفي غرفة أخرى مطلقة أضنتها الأمراض منذ 15 عاماً، هي فترة مكوثها هنا، تجهل ما يدور حولها من تغيرات في المجتمع، يتضح ذلك في حلمها البسيط بتغيير وجبة الدجاج التي لازمتها طوال سكنها، وأكثر ما يشغل بالها توفير قيمة النقل شبه اليومي لمركز غسيل الكلى، فهي لا تحلم بأكثر من ذلك. كانت قصة المرأتين الأكثر إيلاماً ولم تكونا الوحيدتين اللتين تعيشان في هذا المبنى الفقير من كل شيء إلا من الخير والأمل. ينزل في"فندق الفقراء"- كما يصفه ساكنوه - من أضناهم المرض في أطراف المملكة ولم يجدوا الرعاية الطبية اللازمة في مدنهم وقراهم وأحيلوا إلى مستشفيات الرياض التخصصية. لضعف حيلتهم وفقرهم يتم توفير مأوى بعد عرض حالاتهم على اختصاصي اجتماعي في المستشفيات التي أحيلوا لها، إلا أن"الحلو لا يكمل"كما يقال، فهم يعانون الأمرَّين، وجودهم في السكن مرتبط بزيارات متكررة للمستشفيات، ولعدم وجود دخل مادي مطلقاً لجلهم، تعد أجرة"التاكسي"همّاً يومياً لا يستطيعون التخلص منه. ولأن السكن قائم على فعل الخير، يؤكد محمد عثمان - المسوؤل عن إدارة السكن منذ ثلاثة عقود -"إن الخيرين تناقصوا مع ازدياد الثراء الملحوظ في المنطقة. وانتعش الحي والمدينة والمملكة اقتصادياً إلا سكن الوفاء، لذلك فإدارة السكن لا تملك من الأمر إلا ما يوفره فاعلو الخير". ويرفض عثمان بشدة الإفصاح عن اسم رجل الأعمال الذي وهب مبنى السكن طوال العقود الثلاثة الماضية من دون مقابل، فضلاً عن تقديمه مبلغاً سنوياً مقطوعاً لإدارة السكن. وسألت"الحياة"من التقتهم عن اسم فاعل الخير، لكن كانت إجاباتهم متشابهة:"الله يكثر من أمثاله"أو"يا ليت التجار يفعلون مثل فعله... كان البلد بخير". عائلة من 4 أشخاص مهددة بالطرد من غرفة ... لإتاحة الفرصة أمام آخرين ! مطلقة، ومتقاعدة براتب 1700 ريال، وزوج معوق وأم لسبعة أولاد أكبرهم مدمن، وتراجع في سبع عيادات لأمراض مختلفة بعد أن أجرت 20 جراحة. برزت معاناة أم عبدالله عن سواها كونها مقيمة دائمة في سكن الوفاء منذ أربعة أعوام مع ابنتها الوحيدة بين ستة ذكور، يقيم معها منهم اثنان فقط أحدهم يعيش على جهاز تنفس اصطناعي 16 عاماً، والآخر لم يشفع له معدله في الثانوية العامة في الدخول للجامعة. تتحدث أم عبدالله وكلماتها ممزوجة بالدموع بحروف ابتلع بعضها كثرة النحيب، تطلب المساعدة بحرقة:"أرجوك ساعدني، دعهم يساعدوني، سيطردونني من السكن، أين أذهب؟". وعند سؤال إدارة السكن عن حقيقة الطرد، أجاب محمد عثمان الذي يعمل في السكن منذ 30 عاماً:"وجودها الدائم في السكن يحرم الكثير من المراجعين فرصة السكن، لذلك عرضت إدارة السكن عليها مبلغ 5 آلاف ريال للبحث عن سكن لها ولأبنائها، بعد أن انضم إليها ابنان آخران، تم تأمين غرفة إضافية لهما، والإدارة رأت من الأفضل أن تبحث أم عبدالله وأبناؤها عن شقة تناسب عدد أفراد أسرتها ليعيشوا عيشة كريمة". لا أحد يستطيع تحديد لب المشكلة لهذه المرأة، فهل يكمن في عيشها مع ابنيها وابنتها في غرفة واحدة طوال الأعوام الماضية أم فقرها المدقع أم أمراضها المتنوعة؟ بدأت أم عبدالله بقولها إنها ظلمت للمرة الأولى عندما قاعدوها، لأن والدها زاد في عمرها عندما استخرج شهادة ميلادها، وهي أصغر بكثير من العمر المسجل في الأحوال، وزادت معاناتها بعد أن أجرت أكثر من 20 جراحة لخفض الوزن الكبير الذي عانت منه طوال حياتها، أصيبت بعدها بالاكتئاب الشديد. ابنتها عاطلة منذ عامين وإعانة"حافز"انقطعت بعد أن كانت عوناً لراتبها الضئيل ومع ذلك لم تتوظف حتى الآن، ابنها متخرج في الثانوية العامة بمعدل 86 في المئة، ولم يقبل إلا في كلية المجتمع التي لا تدفع مكافأة أو تؤمن سكناً كما تفعل الجامعات الحكومية. ترفض أم عبدالله العودة لمدينتها، لأن البيئة هناك سيئة، وهي التي جعلت ابنها الكبير يدمن المخدرات على رغم علاجه ثلاث مرات في مستشفى الأمل. وزاد من رفضها العودة، تلك الحادثة التي أشعل فيها ابنها المدمن النار في البيت وكاد أن يحرق إخوته، كما حاول قتل أخته ذات مرة بالسكين من دون سبب. منذ أربعة أعوام تسكن الدار، وهي تراجع مع ابنتها وابنها الأوسط معظم أيام الأسبوع في مستشفى قوى الأمن، هذه المدة المتواصلة من الإقامة الدائمة لأم عبدالله وأبنائها تزيد من الضغط على السكن لمحاولة استيعاب أكثر عدد من القادمين من المحافظات، وهذا يستدعي مغادرة الحالات الاستثنائية مثل أم عبدالله، التي تؤكد أنها تود الخروج ولكن وضعها المالي السيئ لا يمكنها من تحمل قيمة إيجار مكان يتسع لأسرتها. وزادت:"أريد أن أستقر، أريد الخصوصية لي ولابنتي". وذكرت أن إدارة السكن عرضت عليها الانتقال للسكن الخيري إيواء - يتبع جمعية النهضة النسائية - في حي النسيم،"ولكني رفضت ذلك، لأن الخدمات المقدمة فيه سيئة والمبنى متهالك".