الرباط أو الأربطة الخيرية، أماكن يخصصها المحسنون من رجال الأعمال وفاعلي الخير، لإيواء المسنين والمسنات والأرامل والمطلقات وبعض المعوقين، الذين لا عائل لهم، أو أبناء يسهرون على رعايتهم، تقطعت بهم سبل الحياة فاتخذوا من الرباط سكنا ومأوى تشاطرهم سنوات الحرمان والعذاب!، يعدون فيها السنوات العجاف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فزيارة واحدة لهذه الأربطة تكشف مدى معاناة من ساقتهم الأقدار ورمت بهم في دهاليز الغياب والنسيان وهم أحياء، مسنون ومسنات، مطلقات وأرامل في خريف العمر، يعانون من الحرمان ويفتقدون للحنان، فلا أحد يزورهم إلا فيما ندر، مأواهم غرفة ضيقة في مبنى متهالك يشكو عوامل الزمن ويفتقر للخدمات، متاعهم أسرة صغيرة وأغطية بالية وأسمال رثة وأوعية طبخ متناثرة هنا وهناك، يقتاتون بما يجود به المحسنون ويشكون أمرهم لله. وبما أن لكل قاعدة شواذ، فإن هذا الوضع المأساوي القاتم، له وجه آخر يطل من خلال بعض قاطني الأربطة الذين يسكنون المأوى منذ سنوات بعيدة وهم من غير المستحقين، فهؤلاء تغيرت أحوالهم المعيشية والمادية ويملك البعض منهم سيارات فارهة وشققا ومنازل وما زالوا مستقرين في الرباط نفسه باعتباره المكان الذي يدر عليهم ذهبا.. فدعونا نتوغل في دهاليز هذه الأربطة للتعرف إلى الضوابط التي تنظم عملها وحال مبانيها وهموم ساكنيها عموما. نحتاج إلى الدواء ففي البداية، كان الحديث لأم عبدالله، وهي أرملة تعيش في رباط في جدة منذ عشر سنوات، على نفقة أهل الخير الذي يؤمنون ثلاث وجبات يوميا لجميع الأربطة في منطقة وسط البلد، حيث قالت: «مطبخنا متهالك وأعمارنا متقدمة، ولا نقوى على الحركة، أو حتى غسل ملابسنا أو كيها ولا أحد يعيننا بعد الله إلا ما تبقى من قوانا». وأضافت: «نستعين بعاملة من جنسية عربية في تنظيف الغرفة الواحدة مقابل 15 ريالا في كل مرة، وهذا المبلغ لا نملكه أحيانا، ونعاني أيضا من انقطاع متكرر للمياه، فنلجأ إلى تعبئة بعض القوارير من المسجد القريب وتخزينها داخل الغرف، حتى حارس المسجد لم يرحم فقرنا، ويتقاضى من كل واحدة خمسة ريالات ندفعها مجبرين». وفي الرباط نفسه، تقيم أم فاطمة؛ وهي امرأة في عقدها السادس، تقول إنها تعيش الألم والعزلة، لعدم وجود أقارب لها أو أبناء وحكمت عليها الظروف بالبقاء داخل الأربطة وتجرع المعاناة التي لازمتها فترة طويلة ولا تزال، وتشير إلى نقص حاد في المتطلبات المعيشية داخل الرباط كافة وعلى رأسها الدواء، حتى الأجهزة الكهربائية الأساسية. لافتة إلى أن الزيارات الميدانية التي تنفذها بعض المستشفيات تأتي غالبا في أوقات متفاوتة ما يسبب لها الكثير من القلق، ويحملها تكاليف إضافية في العلاج ولا يبقى من مبلغ الضمان إلا القليل الذي لا يغطي بقية الشهر. وبينت سلمى محمد -مقيمة في رباط وسط البلد منذ 14 عاما- أنها تعاني من نقص في سبل المعيشة المختلفة وتأخر الكوادر الطبية أحيانا، وهذا يجبرني أن أنفق معونة الضمان على شراء الأدوية. ودفعت الظروف الاجتماعية، وأهمها عدم وجود أبناء يعتنون بها، أم عبد العزيز إلى السكن في الرباط نفسه في جدة منذ 20 عاما، وقالت: «منذ سكني في الرباط وأنا أمر بظروف مأساوية، فالتعب والمرض يلازمانني واحتاج إلى رعاية صحية لكن ظروفي المادية لا تساعدني. وفي رباط آخر في جدة، ومنذ وفاة زوجها من أكثر من سبع سنوات، تقطن عائشة السودانية البالغة من العمر 60 عاما، التي اكتفت بالقول إن الله لا ينسى أحدا. أما معجبة فرحان (أرملة، يمنية، تبلغ من العمر 51 عاما) تقول: أعيش في المملكة منذ أكثر من 37 عاما، وكنت أعيش مع ابني المتزوج لكن زوجته شعرت أنني ثقيلة عليها ولم تراع أنني أم زوجها فطردتني إلى الشارع وعلى مرأى من ابني الذي لم يحرك ساكنا أو حتى يتذكر أنني أمه، وجئت إلى هنا حتى أدفن أحزاني بعيدا عن أعين الآخرين، ورغم عقوق ابني إلا أنني أدعو الله له بالهداية حتى يأتي لزيارتي وعلاجي من الأمراض التي أعاني منها. ورغم ما نحصل عليه من إعانات المحسنين لكنها تبقى نادرة؛ لأن الرباط في داخل حي قديم مكتظ بالعمالة الوافدة. أما مسعدة، وهي سيدة ثلاثينية مطلقة من إحدى الجنسيات العربية وتعاني من إعاقة وتعول ثلاثة أطفال أكبرهم يبلغ خمس سنوات، فتقول كنت أعمل كمدرسة أعطي الدروس الخصوصية في غرفتي حتى أتمكن من توفير قوت يومي لي ولأطفالي، لكن مع الإعاقة والألم الشديد لم أستطع مزاولة هذه المهنة. وأضافت: «لا أعرف أحدا هنا، لذلك لا أزور أحدا ولا يأتينا أحد». معسل في الأربطة وفي رباط في مكةالمكرمة، ثمة صورة قاتمة للرباط، فالمبنى من الخارج يعاني من رداءة الشبكة الكهربائية وسوء وضع خزان الماء ووجود غرف مهجورة وأخرى مغلقة عليها ملامح هجرة النزلاء لها، وأخرى خصصها بعض الشباب لشرب المعسل والشيشة. روائح الموتى والفوضى وسوء النظافة يعدان القاسم المشترك للمكان، وكانت أولى مشاهداتنا، مع وجه شاحب بملابس رثة، هو أقدم النزلاء يقبع على سرير متهالك تتناثر حوله أغطية بالية وبقايا طعام، وقال معرفا بنفسه أن اسمه سعيد ويسكن الرباط منذ 22 عاما، لا أعرف سوى بعض النزلاء وصاحب البقالة الذي يجاورنا حتى المسجد لم أعد قادرا على أداء الصلاة فيه. ويواصل سعيد الحديث بعد تنهيدة عميقة، قائلا: «قضى ثلاثة نزلاء نحبهم داخل غرفهم ولم نشعر بوفاتهم إلا بعد انبعاث روائح جثثهم المتعفنة» وأضاف: لي ولد وحيد يعيش هو الآخر ظروفا مالية قاسية شغلته لقمة العيش عني، إلا من زيارات متقطعة. ولا أخفيك أنني أخشى من أن أموت وحيدا مثل جيراني، وأحتاج فقط من يلقني الشهادة. فأنا منذ 20 عاما، والعزلة تلفني من كل جانب وأستنشق رائحة الموت والصمت المطبق، وحتى إعداد الطعام لا أقدر عليه لضعف بصري. وفي المدينةالمنورة، تسكن أم إبراهيم الرباط منذ سبعة أعوام، وتعاني من الأمراض المزمنة، انقطع أقاربها عن زيارتها وأصبحت تقتات بما يجود به أهل الخير عليها. ويقول محمد توفيق (ساكن آخر) إن الرباط هو المكان الذي يستظل فيه ويهرب من غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الإيجارات. حال الأربطة وكشفت دراسة خاصة عن الأربطة الخيرية في منطقة مكةالمكرمة، أشرف عليها الأخصائي الاجتماعي سعود مرزا، أن أغلب سكانها هم من غير السعوديين، وتصل نسبتهم ما بين 78 90 في المائة، وأن نسبة كبيرة منهم غير مستحقة وتم إسكانهم منذ مدة طويلة بطريقة عشوائية أو بغير علم المالك. وأشارت الدراسة إلى أن أغلب الأربطة قديمة تجاوز عمر بعضها المائة عام، وتحول إلى معلم أثري ترفض الأمانة التفريط فيه وتعتبره ثروة وطنية، إضافة إلى أربطة أخرى تخلى عنها ناظروها وملاكها وتقع أغلبها في وسط البلد، فيما بعض سكانها هم من كبار السن والأرامل والمطلقات ونسبة بسيطة من المعوقين وأغلبهم في حاجة إلى عناية ورعاية اجتماعية، وصحية وإنسانية. كما كشف الدراسة تحسن الأحوال المادية لبعض سكان الأربطة، حيث تغيرت أوضاعهم المعيشية وربما يملكون سيارات فارهة وبعضهم يملكون شققا أو منازل خاصة، إلا أنهم ما زالوا مستقرين في الأربطة ويرفضون مغادرتها، وأن النزلاء يستضيفون أناسا من خارج الرباط. قدرات غير مؤهلة وللمتخصصين رأي في القضية، وهنا يرى حسن عاشور، المتخصص في إدارة الأربطة، أن الأربطة في حاجة إلى قطاعات بديلة متخصصة في العمل الاجتماعي، إذ من غير المعقول أن تدار هذه الأربطة بموظفين لا يملكون القدرات والمهارات والتجارب والخبرات والبرامج الاجتماعية، وأضاف: نحن بحاجة إلى جهات رقابية متخصصة تدير وتشغل هذه الأربطة. أما عبد الله بالعمش متقاعد ومدير سابق لأكثر من دور اجتماعية، فيرى صياغة نظام جديد لنظام عمل الأربطة، يضع معايير الإسكان ووضع ضوابط اجتماعية مع أهمية تحقيق الرعاية الشمولية للنزيل، والاستفادة من التجارب الدولية، مؤكدا على أن خصخصة الأربطة طريق مسدود وأن من أسباب تطويرها إلحاقها بجهات متخصصة تتحمل مسؤوليتها. ضوابط السكن عمدة حي اليمن، البحر، والشام، والمظلوم عبدالصمد محمد محمود، الذي يقف على الأربطة الموجودة في المناطق التابعة له، قال: الأوقاف كانت قد سلمت في السابق الأربطة إلى جمعية (البر) وحاليا صدرت الموافقة على إنشاء جمعية (الإحسان لرعاية الإنسان) التي ستخصص في رعاية الأربطة وصيانتها ورعاية ساكنيها. وأضاف: الأوقاف وضعت ضوابط لهذه الأربطة ومنها: أن تكون السيدة أرملة أو مطلقة وليس لها عائل ومخصصة للسعوديات أو حسب شرط الواقف، إلا أن النظام يراعي المسائل الإنسانية. وعن الأربطة التي تكون على واجهات تجارية ومواقع تجارية ويوجد أسفلها محال تجارية، بين أن ريعها يعود إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتحاول الوزارة بهذا الدخل أن تطور في هذا الرباط أو الدار والأربطة الأخرى ، وأن الساكنات في الأربطة ليس لهن أي نصيب من هذا المال الذي يأتي عن طريق تأجير المحال التجارية أسفل هذه الأربطة. تأهيل وتدريب وأوضح المستشار النفسي الدكتور خالد باحاذق إن أغلب القاطنين في الأربطة هم أشخاص أجبرتهم ظروف وقسوة الحياة على السكن فيها، وهم في الغالب من كبار السن الذين يحتاجون للبوح بما في قلوبهم وإخراج مكنونات أنفسهم بالحديث عن إنجازاتهم فيما مضى من وقت، ويعانون من التهميش، حتى في الأعياد لا يجدون من يزورهم أو يدخل الفرحة في قلوبهم، وآمل تطويرها وتأهيل ساكنيها وتدريبهم على حرفة يقتاتون منها، عوضا عن انتظار صدقات المحسنين. عقوق الأبناء من جهته، قال المستشار الاجتماعي الدكتور عادل الجمعان، أن معظم قاطني الأربطة كان لهم أدوار كبيرة في حياتهم، وهم بحاجة إلى خدمات تطوعية وليس فقط الاتكال على الأشخاص القائمين على هذه الدور . وقال حال الأربطة تكشف بعض الجوانب السلبية في المجتمع كالعقوق. ضوابط السلامة إلى ذلك، أوضح الناطق الإعلامي في إدارة الدفاع المدني في منطقة المدينةالمنورة، الرائد خالد الجهني، أن جميع الأربطة تخضع لاشتراطات ومتطلبات عامة سواء كانت حديثة أو قديمة أو مستخدمة وتابعة للأوقاف، وعند حدوث مخالفة فإن الدفاع المدني يتخذ الإجراءات اللازمة حيالها. إلى هنا، قال مدير الدفاع المدني في العاصمة المقدسة، العميد جميل أربعين ، إن إدارته خصصت ملفا يحوي واقع الأربطة الحالية في مكةالمكرمة، ويتضمن سجلا لكل رباط يتضمن الصور الواقعية ومشاهد المراقبين، وقال: رفعنا للجهات المختصة بأمر وواقع هذه الأربطة وتم تبليغ جهة الاختصاص بملاحظات فريق الأمن والسلامة في الإدارة من حيث المخاطر الأمنية في سوء التمديدات أو الإنشاءات، مشيرا إلى أن المشكلة تكمن في الأربطة الخيرية التي لا يعرف صاحبها أو المسؤول عنها، خصوصا أن بعضها غير مسجل رسميا لدى إدارة الأوقاف، ونصدم بعدم تجاوب أصحابها أو الورثة. وذكر أن إدارة الدفاع المدني رصدت في جولاتها الأخيرة 120 رباطا، ووجهت بفصل الخدمات عن رباطين لمخاوف أمنية، وطالبت باتخاذ عدد من الإجراءات والإصلاحات التي من شأنها سلامة النزلاء، فيما سجلت ملاحظات بالغة تستدعي سرعة التدخل في 80 رباطا وطالبنا إشراكنا في إصدار التصاريح لمواجهة التجاوزات. إشراف المحكمة من جهته، قال مدير فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المدينةالمنورة، الدكتور محمد الأمين بن خطري، إن إدارته تشرف على 12 وقفا في مختلف أحياء المدينةالمنورة، وتتعاقد مع شركات صيانة ونظافة وشركات تشرف على المصاعد الكهربائية، إضافة للنظافة العامة والاهتمام بالأربطة، مبينا إشراف المحكمة الشرعية في المدينةالمنورة على الأربطة الأهلية وليس للأوقاف أي دخل في شؤونها، مشيرة إلى اهتمام فرع وزارة الأوقاف بالأربطة وقال: «نادرا ما تحدث شكاوى وعند حدوثها تعالج بشكل مباشر». تحايل واستغلال وللأمانة رأي في هذه القضية، إذ كشف مسؤول في أمانة جدة، عن تصاريح تصدر لأربطة ومن ثم تحول إلى شقق مفروشة وبأسلوب مخالف، ويعد تحايلا على النظام والقانون. ضوابط جديدة إلى ذلك، أشارت مصادر مطلعة، عن الإعلان قريبا عن ضوابط وآليات عن الأربطة، تحدد صاحب الأحقية في السكن بها، ويأتي ذلك في إطار تطوير برامجها وخدماتها. وأكدت المصادر ذاتها، أن لجنة رباعية تمثل وزارة الداخلية، الشؤون الاجتماعية، الشؤون الإسلامية، ووزارة الصحة ستصدر تصورا شاملا عن وضع الأربطة الحالي وأبرز السلبيات فيها، وأشارت الدراسة إلى أنه سيتم تجهيز وإعداد أرشيف متكامل عن الأربطة، يضم ملفات عن ساكنيها ووضع الأبنية وسلامتها، ويربط آليا مع الجهات ذات العلاقة لمتابعة السكان بشكل مستمر .