أبرم معهد الإدارة العامة يوم الأحد"8 كانون الثاني يناير 2012"عقداً بقيمة 6,5 مليون ريال مع شركة أميركية لدرس وتقويم برامج المعهد، وفي الحقيقة أنه يجب التوقف كثيراً عند هذا الحدث وما تضمنه من معلومات مهمة، فمن أهم الملاحظات على هذا الموضوع أن معهد الإدارة عُرِف عنه أنه الجهة التي تلجأ إليها الأجهزة الحكومية للاستشارة أو الإصلاح الإداري، فقد تم تأسيسه من أجل الإسهام في التنظيم الإداري للإدارة الحكومية، وإعطاء المشورة في المشكلات الإدارية التي تعرضها عليه الوزارات والأجهزة الحكومية، كما أن معهد الإدارة يحتضن اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري التي تعمل على إعادة الهيكلة لأجهزة الدولة المدنية، فكيف يُلجأ لجهة أجنبية لدرس وتقويم برامج المعهد وأنظمته وأدائه وقياس أثر التدريب في أداء موظفي الأجهزة الحكومية بالمملكة؟ وهذا في الواقع ما ينطبق عليه المثل الشائع"طبيب يداوي الناس وهو عليل". المتتبع لمسيرة معهد الإدارة يعلم أن هناك تراجعاً ملاحظاً في أداء ومستوى المعهد، مقارنةً بما عُرف عنه في الماضي، خصوصاً في مجالي التدريب والاستشارات، وهذا ما لاحظه مجلس الشورى وأبدى عليه ملاحظاته أثناء مناقشته لتقرير المعهد السنوي، وهي حقيقة نتفق عليها، ولكن الخلاف على لماذا اللجوء إلى شركة أميركية، وأبناء الوطن من ذوي الكفاءة والتأهيل يملكون الحلول الناجحة، إلا إذا كان مزمار الحي لا يُطرب؟ المعهد يعرف جيداً علته، ويعلم كيف يعالجها، ولكنه يُشبه الشخص المريض الذي قرر الأطباء المهرة وجوب استئصال عضوين من جسده وزراعة آخرين مكانهما لينعم بالصحة والعافية، وهو يُصر على تناول المسكنات المصنعة من شركة أجنبية، فاستشاريو المعهد دائماً ما ينتقدون الأجهزة التي تستعين بالجهات الأجنبية التي تبيع الوهم وتجهل الواقع المحلي، وتُقدم حلولاً وتوصيات غير قابلة للتطبيق فيكون مصير تقاريرها أدراج الحفظ بعد إهدار الوقت والمبالغ الطائلة. مراحل التقدم والتطوير لتحقيق التنمية الإدارية الأفضل تستوجب مواكبة طبيعة المرحلة ليكون الحاضر المعاصر يفوق مرحلة الماضي مع العمل على التهيئة لمستقبل أفضل، ولكن المعادلة في المعهد انقلبت عكسياً بما يشهده نشاط التدريب من انتكاسة، فبعد أن كان المتدربون من موظفي الأجهزة الحكومية يحصلون على تدريب مميز وحوافز تشجيعية بحصول المتدرب الذي يحصل على درجة الامتياز على راتب شهر، أصبح المتدرب يحصل على شهادة حضور فقط، لتحضر الأجساد ويغيب التركيز والتفاعل وروح المنافسة من أجل تجميع نقاط تساعد على الترقية، وفي بيئة تدريب غير ملائمة، إذ كان ماضي أيام التدريب أكثر وساعاته في اليوم أقل، لتصبح الآن الأيام أقل وبساعات أطول تمتد لست ساعات متواصلة في اليوم، تُرهق المدرب والمتدرب، وفي قاعات وعلى مقاعد غير مناسبة، كما أن الاهتمام والتركيز على أعداد المقبولين أصبح أهم من الكيف ومدى جودة التدريب. فمع التحول إلى الترشيح الآلي، أخذ المعهد يحرص على النشر في الصحف عن الأعداد التي يتم قبولها ويصورها على أنها إنجاز، مع علمه أن هناك أعداداً أكبر منها بالأضعاف بقيت لا تحصل على التدريب ولأعوام عدّة، بحجة اكتمال العدد. الملاحظة الأخرى التي أثارها مجلس الشورى عن التردّي الذي أصاب نشاط الاستشارات بانخفاض عدد الاستشارات مقارنةً بالسابق، وعزوف كثير من الأجهزة الحكومية عن الاستعانة بالمعهد وتفضيلها لجهات أخرى. والحقيقة أن تبرير المعهد بأن ذلك بسبب دراسات اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري هو غير صحيح لاختلاف طبيعة ومجال كل منهما عن الأخرى. فالفريق الاستشاري في السابق كان يُشكل على أساس الكفاءة والتأهيل وليس لاعتبارات أخرى، ولذلك تعدّت استشارات المعهد السابقة الحدود الوطنية لتشمل الإقليمية وعلى مستوى الوطن العربي، وبدلاً من أن تكون الخطوة التي تليها إلى الدولية يتم التراجع، مع الأسف، خطوات نحو الوراء ليستعين المعهد بجهة أجنبية لتقويم نشاطه. كما يجب التوقف للتأمل كثيراً عند ما تم طرحه بعد توقيع العقد مع الشركة الأميركية من إلقاء اللوم على وزارة المالية في وقوفها حائلاً دون إنشاء فروع للمعهد على مدى عشرة أعوام، بما فيها موازنة العام الحالي الاستثنائية، فمن أبسط الأشياء التي يدرّسها المعهد لدارسيه ويدرّب عليها متدربيه أن تعترف الجهة أولاً بمشكلتها ولا تبحث عن شماعة لتلقي باللوم على الآخرين، والرد العملي على هذا اللوم غير المبرر بمثال واقعي من المعهد نفسه أثناء فترة تولي الدكتور حمد السلوم"رحمه الله"إدارة المعهد خلال الفترة من 3 - 3 - 1416ه إلى 30 - 2 - 1420ه، وفقاً لما ورد في كتاب"معهد الإدارة العامة نشأة وتطور"، الذي أصدره المعهد بمناسبة احتفاله بمرور 50 عاماً على إنشائه، وهي مناسبة، مع الأسف، لم تتم الاستفادة منها للتعبير عن الوفاء بتكريم تلك الشخصية التي قدّمت للمعهد الكثير، ومنها مشاريع التوسعة، التي اشتملت على قاعات تدريبية حديثة وإدارات ومبنى مستقل للمطبعة ومرافق أخرى بما فيها مواقف السيارات التي حلّت أزمةً كبرى عانى منها دارسو ومتدربو وزائرو المعهد مدةً طويلة، فتلك الفترة الزمنية، كما هو معلوم، كانت فترة تسمى"بشد الحزام"، ومع ذلك استطاع الدكتور حمد السلوم أن يحصل على الاعتمادات المالية لتلك المشاريع، وإن لم يسعفه الوقت ليحظى بقطف ثمارها، وهي مشاريع ظلت حلماً للمعهد حتى حينما كان وزير المالية هو رئيس مجلس إدارة المعهد، قبل أن يصبح وزير الخدمة المدنية، ولم تكن تلك حسنته الوحيدة، فقد شهد المعهد في فترته الانعتاق من قوقعته وعزلته والانفتاح على المجتمع، التي استفاد منها كثير من منسوبي المعهد الذين حصلوا على مناصب قيادية في جهات عدّة، وكان من المتوقع لو استمرت فترته إلى مرحلة الانتعاش الاقتصادي، لكان وضع معهد الإدارة ومنسوبيه أفضل بمراحل، وعم التطوير والتحسين فروع المعهد أيضاً، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة، وليس هناك أي مجاملة أو محاباة، فالرجل رحل عن الدنيا. ويتبقى موضوع يجب أن يكون له الأولوية، عند النظر بجدية في معالجة وضع المعهد، بالالتفات إلى وضع منسوبيه وانتشالهم من حال الإحباط، فلا يمكن لأي جهاز أن ينجح ومنسوبوه يشعرون أنهم مهملون ومحبطون، وما أسهم في ذلك الشعور السلبي عوامل عدّة، منها محاباة البعض، والإحساس بالظلم لدى الأكثرية، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالمعهد يدّعي تبنيه سياسة التدوير الوظيفي، بينما هناك من أمضوا ربع قرن وهم على كراسي الإشراف الإداري، وغيرهم كثير ممن أمضوا المدة نفسها، وأكثر ولم تتح لهم أي فرصة للتجربة، وعلاوة على ذلك تم الوقوف أمام الفرص الوظيفية التي توفرت خارج المعهد برفض العروض التي قٌدمت لهم، في سياسة غريبة وغير واضحة، التي تتيح الفرصة للبعض بالإعارة وتحرم الآخرين منها، والمثال ينطبق أيضاً على المسيطرين على الاستشارات والحلقات التطبيقية واللجان الدائمة التي لها المردود المادي واكتساب الخبرة، فهناك من تضخم رصيدهم منها، وهذا يشمل أيضاً الفرص التي دائماً ما تستفيد منها الفئة المحددة التي تستحوذ أيضاً على موارد مركز الأعمال بينما ترفض المشاركة في تأدية الأعمال التي ليس لها مردود مادي بحجة الأعباء الإدارية، وتتسابق وتستأثر بالأعمال التي ترفضها إذا كانت ستحصل من ورائها على مردود. لا يتوقف موضوع الإحباط عند ذلك الحد، فلقد تم التعامل مع أعضاء هيئة التدريب من حملة الدكتوراه بطريقة غير مقبولة بتاتاً ممن رُفضت طلبات إعاراتهم واستقالاتهم فاضطروا للانقطاع عن العمل، وكثير منهم قضاياه لدى ديوان المظالم منذ سنوات، والمؤسف أن منهم من خدم المعهد سنوات طوال من عمره وانتهت بمعاملة سيئة لا تليق، كما أن الموقف كان سلبياً من تطبيق قرار مجلس الوزراء رقم"259"، وتاريخ 1 - 9 - 1429ه الخاص بأعضاء هيئة التدريب من حملة الماجستير المعينين على لائحة الوظائف التعليمية، والذي بسببه حرموا من المزايا والبدلات والمكافآت التي يتقاضاها أمثالهم من منسوبي الجامعات السعودية، كما اتخذت قرارات إدارية تكرس الشعور بالإحباط لدى منسوبي المعهد في التفرقة بينهم في اعتماد بدل ندرة لتخصصات تشبع منها الوطن، فخريجو تلك التخصصات يقفون في طوابير البطالة منذ سنوات عدة، ولكن المعهد اعتمد معياراً غريباً في صرف هذا البدل، باعتبار التخصص الذي به وافد يعتبر تخصصاً نادراً، وكلما زاد عدد الوافدين زادت نسبة البدل، وكان من نتيجة ذلك تفاوت النسب بين أعضاء هيئة التدريب ممن لا يحصل على شيء أبداً، وبين من يحصل على نسبة قليلة، إلى من أصبح يحصل على نصف راتب إضافي، وهناك من أصبح يحصل على ضعف راتبه بسبب هذا البدل وبدلات أخرى استحدثها المعهد وتسببت في إيجاد مزيد من الفجوة والتفرقة بين منسوبيه، على رغم أن معظم تلك التخصصات نظرية وأصحابها يقومون بالمهام الوظيفية نفسها، ويجدر التنبيه على أن هذا التصرف من المعهد يتعارض مع إستراتيجية توطين الوظائف، ومع النظام الذي يعتبر الوظيفة التي يشغلها وافد تعد شاغرة نظاماً، فالحرص على بقاء الوافدين سيبقى كي لا يطير البدل.الحديث يطول عن أحوال ووضع معهد الإدارة المعلوم جيداً للمحيطين به، التي لن تجدي معها الاستشارة الأميركية ولا غيرها من الاستشارات، ما لم تبدأ أولى خطوات المعالجة بالاعتراف بالمشكلات والقضايا الحقيقية، ومن ثم العمل على تصحيحها بالوسائل السليمة، وبإدارة المعهد كهيئة عامة، كما نص على ذلك نظامه، وليس كمؤسسة خاصة، يذهب ريعها لعدد من الأفراد المنتفعين من ورائه، فالمصلحة العامة أهم بكثير من مصلحة الأشخاص، كي يستعيد المعهد إنجازاته الحقيقية لا"المصطنعة"، التي كلف من أجلها فريق للبحث عن جوائز من جهات من هنا وهناك ليس لها أي قيمة علمية ولا مهنية، وكي لا يظل يعيش على أمجاد الماضي، ولعله بالتعيين الجديد لوزير الخدمة المدنية رئيس مجلس إدارة معهد الإدارة تتحقق الأماني وتعالج المشكلات، ويعود المعهد إلى سابق عهده وأفضل، ليؤدي دوره المطلوب والمنتظر. * كاتب سعودي. [email protected]