أحضرت ورقة ال A4 وقلم رصاص مبري بعناية فائقة. وضعتهما على طاولة مكتبها التي لم تستخدمها منذ فترة طويلة، وجلست قبالة الطاولة بشكل مستقيم تماماً كشجرة فارعة الوجع. من يشاهدها من بعيد - من وراء نافذتها مثلاً- سيقول إنها تهمّ بكتابة شيء عظيم، طبعاً إذا كان يعرف أنها تمتلك لغة جميلة، وقرأ لها إحدى تلك القصائد الدافئة، ولو حصل أن شاهدتها إحدى صديقاتها من وراء بابها المؤارب خلسة، فستتوقع أنها ترسم عيناً برموش كثيفة، وعائلة من علامات الاستفهام كالعادة . لكن لو تجاوزنا مسألة أنها فتاة من دولة اعتادت بيوتها أن تُحاط بسياج أسمنتي قاسٍ - أقول لو تجاوزنا هذا الأمر- وتخيّلنا أن عابراً ما، في شارع فرعي هادئ كان ينزّه كلبه، وفي لحظة ما وقعت عينيه على شباكها المفتوح، وشاهدها بتلك الوضعية، فسيجزم أنها امرأة محطمة، فكل إيماءات جسدها تشير لذلك، أصابعها التي تطرق طرف الطاولة بتوتر مثلاً، نظرتها الضائعة وسط حزن بعيد، شعرها المهمل إلى آخر تلك الأشياء الصغيرة التي نهملها لمدة وإذ بها تكون شاهدة على أوجاعنا. في البدء رسمت خطاً مستقيماً وفي أعلاه دائرة، وبداية من وسط الخط رسمت خطين مائلين للأعلى، ووسط الدائرة كتبت والدي. قالت لنفسها: هو من جلب لي الحظ السيئ بلامبالاته وتجاهله لنا، من المفروض أن يكون الآباء بلا قلوب طيبة، كي لا يكونوا أبواباً هشة لعوائلهم، تذكرت جدتها التي كانت توبخها باستمرار، وتناديها دائما ب"ابنة نورة"، وكأن اسم والدتها تهمة أخلاقية. رسمت خطاً آخر، وفي أعلاه دائرة، وأحاطتها بدائرة أخرى ? هكذا تتصور حجاب جدتها- ثم رسمت علامة X بشكل أكبر، وقامت بطمس الدائرة الصغيرة بقلم الرصاص حتى أحالتها دائرة رمادية، وقالت: وتسوّد وجوه! أنا واثقة تماماً من أنها من أهل النار رغم حجابها الكبير. أغمضت عينيها قليلاً، وفتحتهما، ثم كررت رسم الخط المستقيم الذي تعلوه دائرة، وأعلى الدائرة رسمت مثلثاً، وداخلها كتبت منيف. كان ابن عمتها الذي رفعها لسماء حب أيام المتوسطة يوماً، وتردد بأنه سيتزوجها، لكنه حين أصبح موظفاً مرموقاً، تزوج ابنة عمها الجميلة. أعادت الكَّرة لمرات عديدة متتالية: مُدرسة الفقه التي كانت تضربها بكفها الأيسر، سائقهم الذي لامسها مرات عديدة، ورائحته الكريهة، المرشدة الطلابية في مدرستها الثانوية التي أخبرت والدها بأنها ضُبطت وهي تتعلق برقبة طالبة أخرى، شقيقها المتعجرف الذي اتخذها وسادة للكماته كل يوم، خادمتها الإندونيسية ذات العينين الحقودين، وصديقة عمرها التي ما إن تأبطت ذراع رجل حتى أدارت لها ظهرها، وطليقها الذي اكتشف حين رآها في فستانها الأبيض أنه مازال متعلقاً بأخرى. حين تذكرت هذا الأخير توقفت لبرهة، كانت تحاول أن تتذكر في آخر ليلة جمعتهما نظرة الشفقة التي أطلقها تجاهها، وهو يضع شماغه على كتفه ويبتسم خجلاً. قالت: ماذا؟ أجابها: لا شيء ... ثم سألها: - أي حياة هي الأجمل؟ - تلك التي نعيشها مع من نحب، أجابت... فعلق: صدقتِ، ورحل عن عالمها! دمعت عينها واهتز قلبها، رمت القلم، وتناولت الممحاة وبدأت بمحو كل تلك الدوائر والخطوط بشكل سريع وعشوائي، كانت تمحو، وكل مشاهد حياتها تتكسر على الورقة، وحين انتهت نفضت ورقتها ونظرت إليها، وأخذت تبكي. بكت كما بكت يوم ظُلمت أول مرة، وكما بكت حين دافعت عن نفسها وهي تُضرب، وكما بكائها يوم طلاقها! دخلت والدتها جزعة من بكائها، وأخذت تقرأ بعض الآيات، رفعت رأسها وسألت والدتها: - أي حياة هي الأفضل؟ لم تجبها. كانت تقرأ و تعيذها بالله من الشيطان الرجيم، سألتها مرة أخرى! رفعت والدتها صوتها بالقراءة، واحتضنتها. أجابت نفسها: تلك التي لا نعيشها.