لم تسقط الصينية على الأرض فقط، بل تحطمت وهشمت طعامه إلى قطع صغيرة. تستحق ذلك قلت في نفسي، لقد كنت تحدق ثانية. تخشب مكانه ونظر إلى الطعام. فجأة وقفت ومشيت نحوه. لم أنوِ القيام بذلك، لم أشأ مساعدته، لكني ناديت المرأة خلف النضد. فصمتت وأحضرت قطعة قماش لتنظف الفوضى، وأنا رفعت الصحن ووضعته على الصينية. كان هناك بقعة من السوائل على بنطاله مما يظهر ركبتيه النحيلتين جدا، كبقية جسده. كله عظام. جاكيت متدلي وبنطال معلق. كتفان محدودبان، وذراعان بطول ميل. تبسم لي ابتسامة رائعة غضنت وجهه المرهق وفاجأتني تماما. أشكرك ِ ناولته الصينية ورجعت إلى طاولتي. كنت أعمل في شركة طباعة ضخمة وأتناول طعامي في مطعم الشركة. انتبهت إليه لأنه كان يحدق في وجهي. كانت قصة شعرة سيئة، ومنظره طعامه، ملابسه قديمة باهتة، بنطاله قصير مترهل عند الركبتين وقمصانه كلها موبرة وبلا ألوان. كان يجلس غالبا وحده ينقب في طعامه، ويقرأ المواضيع ويفرزها. بعد عدة أيام من تلك الحادثة، وقف بجانب طاولتي التي كنت أتشاركها مع مارك من قسم البروفة وسأل إذا كان بإمكانه أن يجلس. فأخبرته أن المقاعد كلها محجوزة وتابعت طعامي. اعتذر وأخذ صينيته إلى مكان آخر ما مشكلتك ليانا؟ سأل مارك. لا توجد أية مشكلة. أنا أختار من أشاركهم وقت غدائي. مع ذلك كنت قاسية مع العجوز فهززت كتفي بلا مبالاة لقد أخبرني مارك عن ذلك الرجل أكثر. ذهب ليطلب سيجارة وعندما عاد كنت قد دفنت رأسي في الجريدة؛ لأني قررت أن أهتم بالجريدة أكثر من اهتمامي بما كان يقوله وأخيرا صمت وأنهى سيجارته. لقد سألني عن اسمك. قال مارك. ماذا؟ أجل ماذا قلت له؟ ليانا. أكيد طويت الجريدة عندي أكوام من العمل هذا المساء قال بأن وجهك يبدو مألوفا وكأنك تشبهين شخصا يعرفه. أضاف مارك شخصا يعرفه؟ أجل، ربما تكون خطة، ربما يحلم بكِ. يحلم بي؟ لكنه عجوز كبير كفاية ليكون والدك مثلا أخذت صينيتي وتركت الطاولة لم أنجز الكثير من الأعمال ذلك المساء، بقيت أتمنى أن لا يكون مارك قد قال تلك العبارة فعلا. في الأسبوع التالي أخذت كتابا لأقرأه خلال فترة الغداء، وعندما دخلت إلى المصعد في طابقي وجدته في الداخل. حياني وتوجب علي أن أرد له التحية لكني لم ابتسم. كنا وحدنا في المصعد وهذا أقلقني جدا. قلت لنفسي: لا تذعري. فقط لأنه حدق فيك لا يعني أنه سوف يفعل شيئا. حسنا، أعتقد أنه على أحدنا أن يضغط على الزر وإلا بقينا هنا طوال اليوم، أليس كذلك؟ كنت مشغولة جدا بالتفكير بما قد يفعل وما أتوقع أن يفعل ونسيت أن أضغط زر المصعد شعرت بأنني بلهاء وهذا ما جعلني أبتسم ولم أكن أريد ذلك. فابتسم لي بالمقابل، عيناه الزرقاوان تغضنتا للأعلى باتجاه الشعر الرمادي حول أذنيه وهذا جعله يبدو لطيفا. اهتز المصعد فجأة. كتاب يسقط من يدي فانحنيت لالتقطه وكذلك فعل هو، فاصطدم رأسانا وفي ثانية فتحت أبواب المصعد لوحدها فشعرت بحرج شديد، واندفعت خارج المصعد متجهة فورا نحو الرتل عند النضد، طلبت الطعام دون النظر إلى القائمة وأخذت صينية الطعام إلى حيث لا يوجد سوى كرسي واحد فارغ. تنهدت بارتياح وبدأت أتناول طعامي. لكن السلطة علقت في حنجرتي عندما شاهدت كل الذين كانوا على الطاولة قد أنهوا طعامهم وهموا بالانصراف. استرقت نظرة نحو النضد فرأيته يحاسب وفي ثانية كانت عيناه تجولان المكان بحثا عني، فأحنيت رأسي وانتظرت قدومه في أي لحظة ليجلس بجانبي. «قصص قصيرة من أستراليا» ظهر كتابي أمام عيني. كانت أصابعه أطول أصابع رأيتها في حياتي وأظافره كانت مقلمة. لقد ظننته لا يكترث لذلك. لقد تركته في المصعد. قال لي. أيمكن أن أجلس؟ كان صوته ناعما ومهذبا. فماذا أمكنني أن أقول له؟ كانت كل الطاولات الأخرى ممتلئة فأومأت له موافقة. قال بالفرنسية: شهية طيبة وبدأ يأكل. كنت أظنه دائما ينقب في الطعام لكن راقبته الآن لقد كان يختار قطعا صغيرة من الطعام ويعزلها ليضعها في فمه بكل حذر. هل ذهبت يوما إلى هناك؟ ذهبت إلى أين؟ كنت أشعر بالحرج لأني أوقعت كتابي وضربت رأسي وكل ذلك أستراليا، نيوزيلاندة حدقت إليه وتذكرت ما قال مارك بأنني أذكره بشخص ما. أسترالية؟ ربما صديقة سابقة أو زوجة؟ سؤالي ليس غريبا إلى هذه الدرجة أظن أنك كبيرة كغاية لتكوني قد سافرت هناك. وكاثرين مانسفيلد، وجانيت فريم مرجحتان أكثر في الكتاب. قلصت ابتسامته عينيه. وهكذا بدا الأمر. سأل سؤالا وأومأ حين أجبت، ثم سأل سؤالا آخر. ووجدت نفسي أسترسل وأتحدث عن القراءة والكتب وكل تلك الأشياء التي أحبها: لا لم أذهب، وأجل إنهما كذلك قلت له بعد أيام مر مالكولم بطاولتنا يحمل صينيته وبعفوية قلت له يوجد مقعد فارغ. حدق مارك بي وشعرت بالنار تشتعل في وجنتي وبعدها صار مالكولم يجلس معنا غالبا ونتحدث هو وأنا عن الكثير من الأشياء. تحدثنا قليلا عن أنفسنا أيضا وقال بأنه تزوج في تلك الفترة لكنه تطلق فورا. سألني مارك بعد أعوام كيف يتفق أن يكون هناك دوما الكثير لنتحدث عنه أنا ومالكولم. يسهل الحديث إليه، كما أنه يقرأ كثيرا. أنتما الاثنان لديكما الكثير لتقولاه دوما وأنا يندر أن تسنح لي الفرصة لأفتح فمي. أنت تفتح فمك كثيرا فأنت تحشر الطعام فيه. في إحدى الاستراحات سألني مالكولم إذا كنت أحب الذهاب معه لجلسة حوار أدبي أممم. لا أعلم أميليا تومر. التي رشحت لجائزة الكتاب العام الماضي؟ أردت الذهاب من كل قلبي، لكني لم أكن متأكدة إذا كنت أود الخروج برفقة مالكولم، مع أني لم أعد أجده غريبا كما في السابق. بعد الحوار سأطبخ لك طعاما بالكاري. أتحبينه؟ أعشقه. وأنا أيضا، اتفقنا إذا. لم أكن متفاجئة عندما أومأت بالموافقة. بعد الجلسة والطعام دخلت إلى غرفة الجلوس في بيت مالكولم حيث كان يوجد عدد كتب يفوق أي عدد رأيته في مكتبة أحدهم. وبدأت بقراءة العناوين. اخدمي نفسك بنفسك. قال مالكولم شكرا لكن عندما أقرأ كتابا فعلي إضافته إلى مجموعتي غريب فأنا أفعل الشيء ذاته، وأشار بيده نحو المكتبة وقال: لكن انظري إلى أين أوصلني ذلك. أنا أكره البقاء دون كتب، إنهم.... أصدقاء. هذا يوحي بأنك وحيدة، قال مالكولم فاستدرت نحو المكتبة وسحبت كتابا. هل أنت؟ هل أنا.... ماذا؟ وحيدة؟ هززت أكتافي بلا مبالاة: ليس تماما. ليس تماما لكن ماذا؟ وعندما حاولت أن أجيبه شعرت بأن صوتي ضعيف وكأنه آت من مسافة بعيدة أنا انتقائية بشأن أصدقائي. لذلك ليس عندي الكثير منهم أنا أستمع، قال مالكولم بعد أن جلس وأشار لي لأجلس على الكرسي مقابله. أعني، أنت طفولتي... أعني، لقد أحبت أمي التنقل دوما، ولم يكن لديها مشكلة في زرع جذور في كل مكان. لقد كرهت ذلك! كانت الكتب الشيء الوحيد الثابت، لذلك دفنت نفسي فيها. اللعنة. يبدو ذلك مألوفا بالنسبة لي. جلست في ذلك الكرسي كان أبواي أكاديميين «قال مالكولم»، كان عندهما تفكير آخر وكانا مخطئين على الأرجح، فقد أحباني بطريقتهما العقلانية، لكنهما تركاني أكبر وحدي ومن هنا كانت الكتب. فأنت وحيد إذا، قلت له وعندما غادرت أخذت اثنين من كتب مالكولم معي قصة: جلينيس جيرتش