في السابع من مارس تشاركنا رحماً واحداً عبرنا منه نحو الدنيا، أظنه أخذ النصيب الأكبر كعادته في كل شيء بدءاً من خديه الممتلئين وليس انتهاءً بحب أمي. أبي كان يكنى بأبي عدنان منذ صغره، جاء عدنان واسمه منقوش على جبينه، أما أنا فلم أكن متوقَعة - كما قالت أمي - لم يحتاروا في تسميتي طويلاً، سماني أبي"عدنانة ." أعلم أني غير مفيدة في الكثير من الأحيان، حينما كنا في الثالثة عشر أصيبت أمي بإغماءة، علمنا لاحقا أنها مصابة بالسكري، لم أدر ماذا أفعل سوى الذهول والبكاء حتى صرخ فيّ عدنان:"لا تبكي الآن.. أعطني الهاتف ." اتصل بالإسعاف، كانت تلك المرة الأولى التي أعرف فيها أن للإسعاف رقم هاتف كما لبيتنا رقم هاتف! بدأتُ الصلاة في التاسعة، تناديني أمي:"عدنانة.. هيا إلى الصلاة "ونحن إذاك مستلقيين أمام التلفزيون نشاهد الرسوم المتحركة. كم يثقل علي القيام تلك اللحظة، تلح أمي وتكرر جملتها ثلاثاً وأربعاً.. يفلت من بين شفتي شرط: - طيب قولي لعدنان - وبعدين، يعني كم مرة نعيد؟ وبصوت ملؤه الرجاء أحتج: - يمه، قولي له يصلي - قلت لك الولد يُكلّف في عمر ال 14 .. انتهينا... يللا يضحك عدنان ويلعب بحاجبيه ليغيظني، أصلي سريعاً ثم أعود راكضةً لألحق الفيلم الكارتوني قبل انتهائه، يستقبلني عدنان مخبراً بكل حماس: "ما شفتي شسوى؟؟! " في الحقيقة كان في مرات قليلة يقترب مني عند الصلاة:"خلاص، بصلي معاك هالمرة " فأنهره بكبرياء، في ذلك الوقت كنت قد ارتديت الحجاب، وحدي أيضاً، وصرت لا ألعب الكرة مع أطفال الحي في ملعبنا المجاور، أجلس على عتبة المنزل المقابل للملعب مع البنيات الأخريات نش اهد المباراة لنشجع إخوتنا، لم أكن أشجع عدنان بل عبد الجليل، حتى عاتبتني أمي يوماً وهي تسكب لي الحليب:"عدّونة، لماذا تشجعين عبدالجليل ابن مريم، ولا تشجعين أخيكِ؟ "مططت شفتي:"لأنه لا يعرف كيف يلعب مثله ". ناولتني قطعة شابورة:"لا يا ماما، إذا شجعتِ عدنان فسيكون هو الأفضل، أما إذا شجعت غيره فسيزعل ولن يعرف كيف يلعب "لم أعد أشجع أحداً، أجلس متفرجة فحسب، أملّ فأرسم على الرمل رجلاً عجوزاً يشبه صاحب البيت الذي نجلس على عتبته. بعد مدة قالوا إن أحدهم اشترى تلك الأرض فامتلأت بالعمال والحجارة ومعدات البناء، انتقل الأولاد إلى ملعب آخر بعيد، فلم أذهب معهم قط، لم تسمح لي أمي بذلك. يعود عدنان قبيل العشاء ويحكي لنا بطولاته وأهدافه، كنتُ أعلم أنه يكذب ليخترع تلك الحكايا. متشابهان نحن إلى حد بعيد لكن ابتسامة عدنان أجمل من ابتسامتي، عيناه أدفأ من عينيّ، ومشيته أركز من مشيتي. في وجهه"قبَلة "إذ يحبه كل من يراه.. وعلى خديه غمازتان جذابتان، أنا أكثر امتلاءً وتحت عينيّ سواد أظنه يزداد كلما كبرت. حينما أخبره بذلك يضحك بخجل ويقول أنني الأجمل لأنني فتاة . حسناً.. كان يجب أن يكون الأمر كما يصف لكنني أعلم أنه يجبر خاطري ويواسيني.. بدأ عدنان العمل حينما أصبحنا في الثانوية، كنتُ أساعده في تأدية الواجبات المدرسية وحل التمارين الحسابية، كان عليه حضور الدرس وفهمه جيداً وعلي أنا كتابة الواجب. أغار منه كثيراً، خصوصاً بعدما تخرجنا وتوظف هو وبقيت أنا أنتظر الوظيفة التي لا تأتي على مقاسي، حينما يسافر خارج المملكة لدواعي العمل ألحّ عليه ليأخذني لكنه لا يفعل. أمي تقول أني أهتم بأشياء سخيفة وثانوية، بينما هو يكدّ ويتعب ليؤمّن لنا عيشة كريمة. أنا كثيرة الملل والتذمر، تكره أمي تذمري وتأنس كثيراً بمجالسته، أقارن نفسي دائماً به، لا يجوز أن أقارن نفسي برجل، هكذا تقول أمي: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن. حتى اليوم لم يدق بابنا أي خاطب.. ولا زلت أنتظر وظيفة تؤنس فراغي. الآن أنا في زفافه، أرقص، وألوح بشعري، ما أبهاه على هذا المسرح بجانب عروسه، وأنا أغني، وأصفق، أغار منه كثيراً، وأكره نفسي كثيراً . * من كتاب"الذين اتقوا الريح