بثت قناة الجزيرة لقاءً مع الدكتور محمد الأحمري، كان من ضمن ما قاله: إنه لا طاعة لولي الأمر ما لم يبايعه المسلم بنفسه. وحاول اللف والدوران ضمن هذا المفهوم. من المحتمل أن الناس كانوا سيلتفتون إلى ما قاله، لو أنه تكلم في قناة أخرى غير قناة الجزيرة، المعروف شبقها للبحث عن أي إثارة إعلامية. وللتأكيد على هذا، فقد بثت هذا اللقاء أيضاً قناة المدعو سعد الفقيه أبو العريف. وقد سميته أبا العريف، لأنه يزعم أنه يفهم في كل شيء. فلم يُسأل سؤالاً في الدين، أو في الاجتماع، أو في الطب، أو في الكيمياء، أو في الاقتصاد، إلا وأجاب عنه. ولو دخل في مسابقة جينيس للأرقام القياسية في تحقيق رقم قياسي في الإنسان الذي يتكلم من دون التوقف البتة، لفاز من دون أي منازع على اللقب. وللأسف لم أجد من تصدى في الرد على الأحمري سوى الزميل عبدالواحد الأنصاري في مقال له في صحيفة"الحياة"بعنوان"الأحمري ونظرية الجبر". تناول فيه الرد على جزئية قول الأحمري: إن وجوب الطاعة لولي الأمر مستوردة من مذهب الاثني عشرية ومن الديانة المسيحية. إن مفهوم البيعة في الفقه، هو اتفاق تعاقدي على طاعة الخليفة ومعاهدته على التسليم له بالنظر في شؤون المسلمين، ويقوم على ركنين: الأول، ركن الإيجاب، ومعناه قيام أهل الحل والعقد - العلماء وأهل الرأي والتدبير، والوجهاء - نيابة عن جمهور الأمة في مبايعة المرشح للخلافة. والركن الآخر، هو القبول، ويتمثل في المرشح لأمر الخلافة أو الإمامة، لما ارتآه أهل الاختيار أو أهل الحل والعقد. وعلى هذا المفهوم، حدثت بيعات عدة في التاريخ الإسلامي، منها بيعات الخلفاء. ورد مفهوم البيعة في القرآن الكريم في قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة. وقوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، وقوله: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وفي الحديث الشريف، عن عبادة بن الصامت، قال:"دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما أُخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَة علينا، وألا ننازع الأمر أهله". للبيعة أشكال عدة"منها ما يكون على الإسلام، كما جاء في القرآن والسنة. ومنها البيعة على النصرة والمنعة، كما جاء في بيعة العقبة الثانية، ومنها البيعة على الجهاد في سبيل الله، كما هو في بيعة الحديبية. ومنها البيعة على الهجرة، كمن عاهد النبي، صلى الله عليه وسلم، على الهجرة من مكة إلى المدينة. ومنها البيعة على السمع والطاعة، وهو ما يعطى للخلفاء من عهد بالسمع والطاعة. صحيح أن البيعة واجبة على كل واحد، بناء على بيعة أهل الحل والعقد. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية". ولكن أجمع جمهور العلماء أنه لا يشترط أن يصافح الناس كافة إمامهم، ويكفي قيام أهل الاختيار بذلك. وعلى المختار للإمامة قبول ذلك"إذا توافرت فيه الشروط. إذ تنعقد الإمامة بإجماع أهل الحل والعقد، وبمبايعة جمهور أهل الحل والعقد في كل بلد. وكانت البيعة تتم بالتشاور أولاً حول الشخص المرغوب فيه، ثم إتمام الأمر ببيعة خاصة، ثم البيعة العامة في المسجد، ثم يُرسل للأمصار بذلك. وكانت البيعة تتم بطريقتين، الأولى هي العهد والاستخلاف، والأخرى هي طريقة الاختيار بالشورى. أما نقض البيعة"فقد ذكر الفقهاء أنه لا يجوز، إلا إذا ارتد الإمام"أو إذا ظهر منه الكفر البواح، أي الواضح. وفي حديث عبادة بن الصامت، السابق الذكر، قال:"إلا أن تروا كفراَ بواحاً عندكم من الله فيه بُرهان". بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، اجتمع كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، في سقيفة بني ساعدة، وتشاوروا فيمن يتولى الخلافة. فتمت مبايعة أبي بكر، رضي الله عنه، وقام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقال: أبسط يدك يا أبا بكر نبايعك"فبسط يده فبايعه، ثم بايعه المهاجرون، ثم الأنصار، وتعرف هذه بالبيعة الخاصة. وفي اليوم التالي، وفي المسجد النبوي"قام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وتكلم في الناس، ثم طلب منهم أن يبايعوا أبا بكر، رضي الله عنه، فتمت البيعة العامة، بعدها قام أبو بكر، رضي الله عنه، وألقى خطبته المشهورة"فقام الناس وبايعوه"فتمت بيعته بإجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار. حين اشتد المرض بأبي بكر رضي الله عنه، صلى بالناس عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وشاور أبو بكر، رضي الله عنه، كبار الصحابة في عمر، رضي الله عنه، فأثنوا عليه خيراً، فعهد إليه بالأمر، ثم أمر عثمان، رضي الله عنه، أن يكتب كتاباً ليُقرأ على الناس بالمدينة، فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا. وقام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وخطب على المنبر، وأخذ البيعة من الناس. قال الإمام البخاري في صحيحه: بعد وفاة عمر، رضي الله عنه، تولى عبدالرحمن بن عوف أمر التشاور مع الصحابة، واستقر الأمر على عثمان وعلي، رضي الله عنهما، فدعا علياً، وعثمان، رضي الله عنهما، وشاورهما. وعندما أصبح الصبح واجتمع الناس بالمسجد، صعد ابن عوف المنبر وطلب علياً، وقال له: ابسط يدك، وسأله: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم، لا! ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، فأرسل ابن عوف يده. ثم دعا عثمان ووجه له السؤال نفسه، فقال عثمان: اللهم، نعم، فقال ابن عوف: اللهم اسمع فاشهد! اللهم، اسمع، فاشهد! اللهم، اسمع، فاشهد! اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان. فازدحم الناس يبايعون عثمان، رضي الله عنه. وكذا، بعد مقتل عثمان، رضي الله عنه، اتفق العديد من الصحابة، على مبايعة علي، رضي الله عنه. إن هذا القول الذي ذهب إليه الأحمري لم يقل به أحد من قبل"والدليل من السنّة النبوية في أنه ليس من الوجوب مصافحة جميع المسلمين الإمام على البيعة أن بيعة العقبة الأولى لم يشهدها إلا 12 رجلاً. وبيعة العقبة الثانية لم يشهدها إلا 73 رجلاً وامرأتين. وبيعة الرضوان لم يشهدها إلا 490 نفراً من المسلمين. * باحث في الشؤون الإسلامية.