كلَّما احتكمت الخصومة، وتوثَّقت، بين رأسَيِّ"المجتمع السياسي الفلسطيني"الضيِّق، الذي يضيق به"المجتمع الفلسطيني"ذرعاً، وبدا الحَكَم، أو الوسيط المصري، عاجزاً عن إقناعهما بأنَّ الصلح خيرٌ وأجدى لهما ولشعبهما وقضيته القومية، لاح في الأفق الأعلى الملبَّد بسحب النزاع العبثي، ما يشبه"عصا موسى"، وهو الدعوة إلى"الاحتكام إلى الشعب"، أي رَفْع خصومتهما إلى هذا"الحاكِم"، أو"القاضي""ولكن من غير أن يُبْديا، ولو ميلاً قليلاً، إلى التخلِّي عن احتكامهما في الحُكْم"مع أنَّ الاحتكام في الحُكم، أي الانفراد والاستبداد به، هو ما يزيِّن لصاحبه أنْ يتصوَّر"الشعب"، الذي في الديموقراطية، وبها، يَحْكم نفسه بنفسه، على أنَّه في منزلة"القاضي"، أو"الَحكَم"، فحسب."الاحتكام إلى الشعب"أمْرٌ في منزلة"العنقاء"فلسطينياً، ف"الشعب"الذي إليه يحتكمون، أو يودُّون الاحتكام، هو الذي مُسِخَ معنىً ووجوداً وفِعْلاً في الحياة السياسية الفلسطينية التي، مُنذْ ان قامت للفلسطينيين"حكومة"، كانت واحدة فأصبحت اثنتين، اتَّسَعَت لكل"المنظَّمات"، فَلَمْ تَضِقْ إلاَّ ب"الشعب". أفْتَرِضُ، إذا ما قَبِلْتُ لرأسي أن يكون ممراً أو مقراً لوهم"الاحتكام إلى الشعب"، أن يكون لكل فلسطيني مستوفٍ لشروط أنْ يكون"ناخباً"الحق في أن يدلي برأيه، عبر صندوق الاقتراع الديموقراطي الشفَّاف، في الخصومة نفسها، وفي المتخاصمين أنفسهم، وأنْ يُمكَّن، في الوقت نفسه، من ممارَسة هذا الحق، فلا أهميةً تُذْكَر لحقٍّ لا يتمكَّن، أو لا يُمكَّن، صاحبه من ممارسته. إذا لم يكن في الأمر خداعٌ وتضليل وضلال فإنَّ"الاحتكام إلى الشعب"يعني فلسطينياً، أن يَشْعُر كل فلسطيني مستوفٍ لشروط أن يكون"ناخباً، من"أهل الداخل"أو من"أهل الخارج"، أنَّه قد قال كلمته، وأدلى برأيه، في القضايا مدار الخلاف والنزاع، وفي المتخاصمين أنفسهم"فهل من وجود لهذا"القاضي الشعب"إذا لم يشعر ملايين الفلسطينيين في الخارج بانتمائهم إلى هذا"الشعب"، الذي إليه رَفَع المتخاصمون خصومتهم، إذا ما اتَّفقوا على ذلك، وإذا ما سَمح لهم نزاع المصالح الفئوية الضيِّقة بأن يعملوا بما اتَّفقوا عليه؟! لا تتذرَّعوا بصعوبة واستعصاء أن يكون لملايين الفلسطينيين في الخارج حصَّتهم من"صناديق الاقتراع"، فهذا"الصندوق"هو وسيلة من وسائل عدة للإدلاء بالرأي، أو بما يشبه"الصوت"، ويمكن أن يشعر هؤلاء بوجودهم في عبارة"الاحتكام إلى الشعب". لا تتذرَّعوا بذلك إلاَّ إذا كان الباطن من القول والفعل هو مَسْخ"الشعب الفلسطيني"، مفهوماً ومعنىً ووجوداً، والإبقاء على ملايين الفلسطينيين في الخارج، مشاهدين ومتفرجين، يجلسون في مقاعدهم في خارج"الملعب"، وبعيداً منه بُعْد غزة ورام الله عن"خُلْد"المنافي!"الاحتكام إلى الشعب"، أو إلى"صناديق الاقتراع"في الضفة الغربية وقطاع غزة، يجب أن يكون معركةً يخوضها الفلسطينيون هناك، وقياداتهم السياسية"الرشيدة"، لينتصروا فيها لمبدأ"استحالة الجَمْع بين الديموقراطية والاحتلال"، فلقد انتصروا، من قبل، لنقيض هذا المبدأ إذ تباروا في تصوير انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، والرئاسة الفلسطينية، على أنَّها"حرَّة"،"ديموقراطية"،"شفَّافة"، وكأنَّهم من السويد، شعباً وأرضاً! إنَّ شعباً يتمكَّن من أن يَنْتَخِب البرامج السياسية مع أحزابها وممثِّليها في هذه الدرجة العالية من"الحرِّية"و"الديمقراطية"و"الشفافية"لا يمكن إلاَّ أن يكون حرَّاً، سيِّداً، مستقلاً، لا أثر لاحتلالٍ أجنبي في أرضه وحياته وإرادته! شتَّان ما بين أنْ تُظْهِر وتؤكِّد أنَّ شعبكَ، الذي يخضع للاحتلال الإسرائيلي ويقاومه، منحازٌ، ويزداد انحيازاً، إلى الحياة الديموقراطية بأوجهها كافة، وأنْ تُظْهِر وتؤكِّد للعالم، عن وعي أو عن جهل، ألا تعارُض بين"الاحتلال"و"الديموقراطية"، وأن التضاد الطبيعي والحتمي في العلاقة بينهما يمكن أن يُرْفَع ويُزال. ونحن لو دعونا"الواقع"إلى أن يدلي برأيه في هذا الأمر لقال في كلام جامع مانع إنَّ الخلاف بين"فتح"و"حماس"ما كان له أن يفضي إلى ما أفضى إليه حتى الآن لو كان ممكناً، من وجهة نظر الحقائق لا الأوهام، عقد صُلح بين الاحتلال الإسرائيلي و"صناديق الاقتراع الفلسطينية". الحرِّية في الاقتراع، وفي الترشيح، لا تجتمع و"الاحتلال"، فإذا اجتمعت، فإنَّ النتائج الانتخابية والسياسية لا تجتمع و"الاحتلال"، الذي لن يستخذي لأوثان من القيم والمبادئ الديموقراطية، وإنَّما لمصالحه المضادة لتلك النتائج، فيزج"المنتخَبين"في غياهب سجونه، ويزج"الناخبين"في سجن كبير، يمطرهم بالنار، ويمعن في تجويعهم حتى يكفروا بما انتخبوه من سياسة وبرامج، ويَصُبُ على نار كل خلاف بين الفلسطينيين، الذين انتهوا من فرز الأصوات وإعلان النتائج، مزيداً من زيته، ويفاوِض المفاوِض الفلسطيني ليقنعه بعبثية التفاوض، وبأنْ لا حلَّ من طريقه، وكأنَّه يريد أن يقول للفلسطينيين جميعاً: مفاوضاتكم معنا عبثية، مقاومتكم"العسكرية"لنا عبثية، انتخاباتكم عبثية"وحده نزاعكم"غير عبثي"، فَلْتٌهزموا فيه، ولْيَذهب ريحكم. لقد"نجح"المتخاصمون"تَخاصُم أصلعين على مشط، أي على سلطة"في تسيير رياحهم بما تشتهي سفينة"عدوهم الأوَّل"، فاتَّخذوا من"العبثية"نهجاً للتفاوُض والمقاوَمة معاً، ثمَّ شحنوا بها نزاعهم، حتى ظَهَر، أو أظهروه، على أنَّه الأعظم شأناً من النزاع مع"عدوهم القومي الأوَّل والأعظم"، فاجتمعت"المأساة"و"المهزلة"، إذ اجتمع"احتكامهم في الحكم"الذي لا يساوي قطرة دم فلسطينية واحدة"مع الدعوة إلى"الاحتكام إلى الشعب"، الذي يَعْظُم ميله إلى محاكمتهم لا إلى أنْ يحتكموا إليه! - الرياض