كأن الديموقراطية كانت بحاجة الى ان يخوض اهل السياسة واهل الفكر والعقيدة في بحور من دم حتى تثبت براءتها من مجموعة كبيرة من تهم كانت تُكال اليها في العراق وغير العراق، وأبرز هذه التهم ان الديموقراطية ابنة غير شرعية لأم اسمها "الامبريالية". فالديموقراطية هذا المخلوق المسخ والمشوّه الذي تربّى وترعرع في احضان الغرب وكتب عنه لوك وهوبز ومونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم من الفقهاء، وجد هذا المخلوق رفضاً ومعارضة ومحاربة شرسة في عوالم كانت تتحرق شوقاً الى تنسّم عبير الحرية، العمود الذي ترتكز عليه الديموقراطية، وهي تناضل ضد المحتل. فالعوالم الثالثة في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية بعد ان تحررت من ربقة الاستعمار واضطهاده وجبروته ناصبت الديموقراطية العداء وجعلت منها شبح الاستعمار المنهزم الذي كانت تحاربه ولاحقت كل من آمن بها وتبناها طريقاً للحكم الجديد. وأفرزت هذه الملاحقة والمحاربة انظمة حكم طاغوتية يجلس على رأس كل نظام دكتاتور دموي ارتكن على حزب او حركة صنعها على مقاسه وراح يتفنّن في اضطهاد كل من لا يقدسه او يسبّح بحمده، وشذّت الهند عن هذا فترفّع غاندي عن ان يكون البديل… هو او حزبه حزب المؤتمر عن الاستعمار البريطاني، وحذا حذوه تلميذه النجيب نهرو في الاستمساك بالديموقراطية سبيلاً لحكم الهند، وبذا حمت الهند نفسها من بحور الدماء التي خاضت بها شعوب اخرى ابتليت بحكام ترتعد فرائصهم من ذكر اسم الديموقراطية، ساموا شعوبهم سوء العذاب… والذي يٌثلج الصدر، ويبهج النفس ان اهل السياسة والمشتغلين بها والمعنيين بشأن العراق ومستقبله من كل الأطياف والالوان قد اهتدوا اخيراً الى جنان الديموقراطية وراحوا يتغنون بمفاتنها ومحاسن اخلاقها ونُبل محتدها، ولم تخل كتاباتهم وأدبياتهم من التبشير بها اسلوباً وطريقاً للحكم الجديد بعد زوال حكم الطاغية. فالبديل الديموقراطي، عبارة تكاد تكون القاسم المشترك في كل ما نقرأ ونسمع، بعد ان اخذ البديل الايديولوجي حظه الوافر من التطبيل والتبجيل والتهليل سنين طويلة تمخضت عنه دكتاتوريات عاتية تحكَّم بها طغاة وجبابرة ومجرمون. والشيء الجديد ان دعاة البديل الديموقراطي آمنوا بالديموقراطية الليبرالية المطبقة الآن في الديموقراطيات الغربية بكل آلياتها ووسائلها وما لها او عليها من محاسن ومساوئ، فالكل يدعو الى الاحتكام الى صناديق الاقتراع في تبادل السلطة اي ان السلطة يجب ان تتبدل وفق صناديق الاقتراع فلا تأبيد لها، وسقط من الايديولوجيات تعبيرات كانت تصل الاسماع عن الحزب القائد، وحزب الطليعة. وانتصرت اخيراً الديموقراطية بمفهومها الليبرالي رغم ما بها من اعتوار، واعترف الخصوم انهم كانوا من المخطئين، فالديموقراطيات الشعبية او الشعبيات الديموقراطية، وغيرها من التوليفات كانت عبئاً على الانسان فأخذت منه الكثير وكبلّته وقيدته فتخلَّف وتقهقر وسحقت انسانيته. والذي يعي ثلاثينات واربعينات وخمسينات هذا القرن في العراق يجد ان تطبيق الديموقراطية تطبيقاً سليماً وحراً كان المطلب الرئيس وفاتحة اي بيان لكل المشتغلين بالشأن العام، فالأحزاب والجمعيات والنقابات مافتئت تطالب وتلح من اجل ان تأخذ الديموقراطية طريقها الصحيح والسليم سواء في انتخابات المجالس النيابية او غيرها مما يتطلب الاحتكام الى رأي الشعب في التعبير عن ارادته الحرة في اي شأن عام من شؤون العراق، والويل كل الويل لحكومة تتلاعب بارادة الشعب وتلجأ الى التزوير. فالديموقراطية وتطبيقها السليم هو الشعار الاول والبند الاساس في المناهج الحزبية، ولا ابالغ لو قلت ان كثرة التجاوزات والاعتداءات على الديموقراطية وتشويهها ومصادرة الحريات كان المحفّز الاول لثورة 14 تموز 1958، حتى تجيء ديموقراطية سليمة مع العهد الجديد، وكان على جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت سنة 1957 من كل الاحزاب الوطنية ان تحرص على الديموقراطية التي ناضلت طويلاً من اجل الحصول عليها والعض عليها بالنواجز، وكلها لم تفعل مع شديد الأسف فتعاونت اطرافها على اعتسافها فذبحت الديموقراطية على مذبح شهوة الحكم والاستئثار به، ركضاً وراء شعارات ثبت خطلها وخطؤها، مهدّت لحكم فردي طاغ كان الجميع من ضحاياه. ليس غرضي ان أنكأ الجروح او اوقظ فتنة نائمة ولكني وبعد ان انتهيت من قراءة مذكرات المرحوم الدكتور رحيم عجينة "الاختيار المتجدد" وهو الشيوعي المعروف، اشفقت عليه ورثيت لحاله لشدة ما كان يُعاني، رغم موقعه المتقدم في الحزب جراء عسف القيادة وعدم "ديموقراطيتها" والمماحكات التي كانت تجري في اجواء غير صحية. والحقيقة ان هذا كان شأن اغلب ان لم اقل كل الاحزاب والحركات السياسية التي كانت تمارس العمل السياسي في تلك الفترة بعد 14 تموز 1958، فلم تكن الاحزاب والحركات القومية احسن حالاً من حيث فهمها للديموقراطية، او اسلوب تطبيقها ومجاله سواء كان داخل تنظيماتها الحزبية او خارجها. وكأن الجميع قد تواخى على تطبيق شعار اطلق في حينه يقول "الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب"، وراح كل فريق يفسر على هواه مفهوم الحرية ومفهوم الشعب واعداء الشعب. والملفت ان احزاب ما قبل 14 تموز 1958 كانت اكثر صدقاً واكثر اخلاصاً للديموقراطية واكثر التزاماً بها حتى في تسيير الشؤون الداخلية للحزب يستوي في ذلك قيادة وقواعد. وشيء جميل ان "يقتنع" الكل بأن التناوب على الحكم وتداوله يتم من خلال صناديق الاقتراع، فالجالس على كرسي الحكم يجيء ويذهب من خلال ارادة الشعب الحرة ممثلة باحزابه وصحافته. اقول جميل ان يعي العراقيون ولو بعد حين ان البديل يجب ان يكون ديموقراطياً ويتفقون على "فهم" موحد للديموقراطية وآليات تطبيقها مستقبلاً، ولا اكتم ان في صدري شيئاً من كثرة هذه الطروحات بمناسبة وبدون مناسبة فأخوف ما أخافه ان حليمة ما زالت ترنو الى عادتها القديمة والعياذ بالله. لم تعُد الديموقراطية محبوسة في مفهوم حكم الشعب نفسه بنفسه، فعصر اليوم عصر الانسان، وحقوق الانسان والعالمية والعولمة، وان العالم قرية صغيرة. وهذا يعني ان الديموقراطية صارت معنى انسانياً وبُعداً حضارياً، لا ديكوراً يخطف البصر ويحسّن الاشكال والصور. فانتهاك الديموقراطية او التنكر لها خروج على الناموس الكوني، يهرب من تبعته العقلاء، ويقع فيه المهابيل. فعالم اليوم هو عالم الانسان، والعدوان على الديموقراطية عدوان على الانسان. * سياسي عراقي مقيم في القاهرة.