كلهم ذهبوا. الرجل المسن الذي كان يقف إلى جانبي قبل قليل تاركاً ظله عالقاً في الجدار كثوب أسود يتغضن بالأنين. العجوز المثخنة بالحكايات نسيت عصاها ينعس قرب جواربها وذهبت تتوكأ على أنفاسها. الطفل بملء ما فيه من نزق مخلفاً وراءه ضحكة خضراء طرية لم تزدردها العربة المجنونة. الخياط تاركاً خيطاً من النول حول جثمان ماكينة يتيمة وإبرة مجهدة لترميم رقعة بائتة هي كل ما تبقى من الخياط. الراعي تعوي خلف صمته أودية جرداء وأحجار تثغو. الصياد يجر أحابيله الفارغة تسقفه قلوع من قطا وحمام بعد أن كان يعرف فريسته من ظلها العابر خطفاً. القابلة... يا لهذه القابلة الطاعنة إلى حد أنه لم يتبق لها إلا أن تشيد سلماً من زغاريد ممزوجة بصيحة طفل يولد للتو. الجزار إلى مهنة أقل رثاثة تشيعه غيمة من ذباب أزرق. الجندي الذي نجا من المجزرة وراح يطوف بين العنابر في بيت المجانين مرتدياً قلادة تتدلى منها صافرته وعند الأبواب يقف كالصارية ليؤدي التحية للزوار. السجين المسرح قليل يعتل أمتعته القليلة ويستجدي الخفير المكلف بأعمال الحراسة أن يعيده إلى غرفته التي آوته زمناً طويلاً هي كل عمره. الغد الفار من غده ليصبح في ذمة الأمس. النائم الذي ظل نائماً حتى امتلأ جسمه بثقوب عمرتها الديدان الحمراء بينما ظلت أحلامه وحدها تتوامض كأحجار الياقوت على حواف السرير. السماء التي لم يبق من سمائها سوى نافذة ضيقة تحاصرها سماء أخرى من دخان. والبيوت القتيلة تهدو إلى أنقاضها تعدو بها أشواقها إلى ساكنيها القدامى. وأنا الأبكم الذي ظل ينحت اسمه على شجرة تتضور. وأنت أنت يا هذا... ماذا تنتظر؟ تعال فلم يبق متسع سوى حفرة واحدة، تعال نتقاسم دفئها العاهل واترك القاتل يفتش بعد أن نفد الرصاص من جعبته عن قاتل يقتص منه فلا يجد أحداً... دعه في الوحشة. * قاص سعودي.