مع استمرار الهجوم العسكري على غزة واستمرار مسلسل القتل والتدمير، تظهر وبشكل مشوش ومهزوز اتهامات مؤدلجة حول أسباب هذه الأزمة التي تمر بها الأمة العربية، وتأتي تلك الاستنتاجات على شكل كتابات وتعليقات في وسائل الإعلام وعلى شبكة الانترنت، كلها تتهم التيار الليبرالي المحلي والعربي بالوقوف مع إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني الأعزل، وتُحمّل تلك الكتابات القوى الليبرالية المسؤولية عن المذابح التي تجري في الأراضي الفلسطينية، وهو اتهام يُظهر الضعف وعدم القدرة على التحليل لمعرفة أسباب الصراع العربي الإسرائيلي منذ مئة عام، تعاقبت على الشارع العربي قوى متعددة لا يمكن وصفها بأنها متخاذلة مع إسرائيل في الإبادة الجماعية التي قامت وما زالت تكررها ضد أبناء الشعب الفلسطيني. إن اتهام القوى الليبرالية، سواء المحلية او العربية، بهذه المسؤولية يظهر ان بعض التيارات الدينية هي من يتاجر بالقضية الفلسطينية، ويستغل القتل والتشريد لأبناء الشعب الفلسطيني في سبيل ان تحصل تلك القوى على مكاسب سياسية واجتماعية داخل الدول العربية في صراعها مع القوى الاخرى في سبيل القضاء على التيارات المحلية الاخرى، ووصفها بالخيانة والعمالة لقوى أجنبية، وهذه طريقة هزيلة في اللعبة السياسية، إن بعض التيارات المتشددة لم تعتد الاختلاف في وجهات النظر في القضايا المهمة، فهي تؤمن بالمطلق ومن اختلف معها فإلى الجحيم، فمثلاً قضية غزة والهجوم لا يمكن ان يسمحا لأحد يعطي رأياً يختلف مع نظرتهم بأن"حماس"هي وحدها من يقود النضال الوطني الفلسطيني ضد إسرائيل، أما إذا عبّر احد الكتّاب بأن"حماس"ومعها"حزب الله"هما أداتان في يد دول إقليمية لها صراع مع إسرائيل والغرب حول ملفات معينة، فإن صاحب هذا الرأي هو عميل، فقط للتذكير فإن القوى الوطنية، ومن ضمنها التيار الليبرالي، هو من قاد الحركات التحررية في الصراع مع المحتلين وقوى الاستعمار في القرن الماضي في دول عدة من ضمنها مصر والهند. مشكلة القوى الدينية، ومن ضمنها حماس، أنها تدخل اللعبة السياسية، وهذا من حقها، ولكنها وهذه معضلتها تؤمن بأنها قوى مقدسة، تنطق باسم الدين ومن خرج عن خطها فهو كافر وخارج عن الدين وهو الخائن لوطنه، ان مثل هذه القدسية هي تشويه للإسلام، فلا يوجد طرف معين يحتكر الدين ويفسره حسب أهوائه ومصالحه، فالدين الإسلامي اشمل وأعمق ان يستغل بحروب سياسية وأيدلوجية مع شعوب وثقافات أخرى، بل العكس من ذلك، فالدين الإسلامي يدعو إلى التسامح والحوار مع الشعوب الاخرى. ان من يتهم القوى الليبرالية بأسباب الهزيمة والخذلان العربي هو في الحقيقية يحاول ان يهرب ويبرئ نفسه من المسؤولية التاريخية لما يحدث في فلسطين في الوقت الراهن، وما سيمر بنا من مشاكل في المستقبل، حيث ان الملام دائماً عند هذه القوى الدينية المتشددة هي قوى أجنبية تعمل ليل نهار لتدميرنا، او قوى سياسية أخرى في الداخل عملية لدول معينة، أما القوى الدينية المتشددة فهي مقدسة لا يمكن نقدها كما ترفع"حماس"والقوى الدينية الاخرى، فعند الحديث عن ان حركة حماس خرجت عن الوحدة الفلسطينية، وانقلبت على الشرعية الوطنية الفلسطينية، فإن الرد دائماً هو ان حركة فتح والقوى الفلسطينية باعت القضية، وان رموزها انقلبوا إلى مرتزقة وعملاء. إن الحركات الإسلامية في العالم العربي اكتسبت جماهيرية طاغية بسبب الخطاب الديني المقدس الذي لا يمكن نقده من القوى السياسية الأخرى، ولكنها تستخدم هذا الخطاب للتلاعب بعواطف الجماهير في لعبة سياسية معروفة. في التجربة الأفغانية، وكما هو معروف، كانت الأساطير منتشرة في أدبيات تلك المرحلة من حيث المعجزات والأساطير والبطولات المتخيلة، ولكن الحقيقة انكشفت بعد خروج المحتلين السوفيات من أفغانستان، حيث تحول قادة الجماعات الإسلامية هناك من قادة حرروا وطنهم إلى رجال حرب وعصابات، حيث أصبحوا يتقاتلون على السلطة بشكل عنيف وشرس، كل طرف يدعي الشرعية الدينية بقتال إخوان السلاح السابقين. لقد كنت من المتساءلين حول عدم سماح بعض الدول العربية، كما في مصر وتونس، بإنشاء أحزاب على أساس ديني، ولكن ما تمر به دولنا يؤكد ان مثل هذا التوظيف السياسي للدين هو لعبة خطرة على كيانات مجتمعاتنا العربية. [email protected]