في كل عامٍ يحثّ مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة، الناس على تحري هلال شهر رمضان المبارك، واحتساب الأجر من الله تعالى على تقصد الرؤية وتلمس غبش نوره، فإذا أذن مؤذن الرؤية صام الناس وأمسكوا عن جميع الملذات والمفطرات! ويصاحب عملية الرؤية تلك جدل في أوساط المثقفين عن تحري هلال الصوم بالعين المجردة أم بالحساب؟ أم بواسطة الأدوات المساعدة على هتك أستار الغمام؟ وبعيداً عن الخوض في هذه المسائل التي اقتطعت حيزاً ضخماً من الجدل والنقاش بين الناس، فإنهم يروون أن جماعةً من الناس اجتمعوا ليلةً لرؤيته، فكانوا يحدقون في الأفق ولا يرون شيئاً، فلما طال انتظارهم صاح رجل من القوم بأعلى صوته: لقد رأيته! لقد رأيته! فتعجب الناس من قوة إبصاره وهتفوا: كيف أمكنك أن تراه دوننا؟ فطرب الرجل لهذا الثناء واختال في مكانه وماس قبل أن يصيح ثانيةً: وهذا هلال آخر بجواره! فضحك الحاضرون منه. وروي أن جماعةً فيهم أنس بن مالك الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه، حضروا لرؤية هلال رمضان، وكان أنس قد قارب المئة، فقال أنس رضي الله عنه : قد رأيته! هو ذاك، وجعل يشير إليه فلا يرونه! وكان إياس القاضي حاضراً - وهو من الذكاء والفراسة ? فنظر إلى أنسٍ وإذا شعرة بيضاء من حاجبه قد تدلت فوق عينه! فمسحها وسواها بحاجبه ثم قال: انظر ثانيةً يا أبا حمزة، فجعل ينظر ويقول: لا أراه. وخرج الناس بالبصرة يوماً لرؤيته، فرآه واحد منهم ولم يزل يومئ إليه حتى رآه الناس معه، فلما كان موعد تحري هلال الفطر جاء أحد الظرفاء إلى ذلك الرجل وقال له: قم أخرجنا مما أدخلتنا فيه! وبعيداً عن هذا لم يزل بعض الصائمين يضيقون ذرعاً بمشقة العطش في نهار رمضان، والذي لامس هذا العام شيئاً من الحرارة المرتفعة، وأذكر أن أحدهم عرّض مركبته في الشارع العام قبيل مغرب أمس الجمعة بدقيقةٍ أو أكثر، ونزل منها ليكيل إلى قائد مركبةٍ أخرى لكماتٍ خطافيةٍ تشبه ما كان يجري بين مايك تايسون وخصومه على حلبات لاس فيغاس، ولم يتوقف أحد لفض النزاع بين المتخاصمين، فقد انشغل الناس بتطبيق السنة النبوية الكريمة، التعجيل بالفطر! ونسوا أو تناسوا فضل الإصلاح بين المتخاصمين!