يرى رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش أن الحضارة الإسلامية لم تصنع للعزلة أو الانصهار والذوبان، بل إنها صنعت للتفاعل والتعاون. ولكي تمضي الحضارة الإسلامية في هذا الاتجاه، ينبغي لها أن ترفض فكرة الذنب التاريخي. لقد فرض في هذه الأيام على المسلمين الإحساس بوجوب أن يقوم الجيل الحالي من الشباب بتصحيح كل أخطاء الأجيال السابقة، قبل أن يفكر في تصحيح المستقبل القريب والبعيد للأمة. ويضيف:"بعبارة أخرى، ينبغي للجيل المعاصر أن يتمسك بقوة بالإيمان وبالتحرر من أخطاء الماضي، وبذلك يتحمل المسؤولية عن مستقبل العالم، ليس بالسير على طريق الانعزال أو الانصهار والذوبان، وإنما بالسير على طريق التفاعل الثقافي المتساوي والتعاون الحضاري. إن الأرضية المتوسطة للتفاعل التاريخي والتعاون العقلاني، هي الطريقة الصحيحة للحضارة الإسلامية كي تخرج من ضيق العزلة وخطر الانصهار". ويوضح:"بعد أن جربت الحضارة الإسلامية التفاعل في صدر الإسلام، ومن ثم في زمن التأثير الإسلامي العظيم في التغيير الفكري والروحي في الغرب. فقد آن الأوان لها للتفاعل التاريخي الثالث مع بقية العالم، ولا سيما مع العالم الغربي. ولكن الوضع اليوم يختلف نوعاً ما عن سابقيه، لأن الغرب لا يشعر بالحاجة لتعلم أي شيء من الشرق، كما اعتاد أن يكون حاله في السابق، بل على العكس من ذلك، فإن الغرب يعتقد بوجوب أن يقلده الشرق في كل الأمور، حتى في السلوك الأخلاقي الغريب، والمخالف للحشمة الإنسانية والإنتاج التناسل الإنساني. ولكن لا ينبغي لمثل هذا الوضع أن يثني عزيمة المسلمين عن التفاعل مع الغرب، بسبب ما يوجد من اتكال متبادل ودائم بين العالمين - الشرق والغرب - ذلك الاتكال المتبادل الذي لم يبدأ بالأمس، ولن ينتهي في الغد. إنني أعتقد أنه ليس أمام المسلمين اليوم خيار دون إدراكهم أن مستقبلهم يعتمد على قدرتهم في تحقيق التآلف بين ذاكرتهم الماضية والتاريخ المستقبلي، مما ينجم عنه تعاون داخلي لجميع جوانب النعم الروحية الغنية والثمار الفكرية، وكذلك تفاعل خارجي لكل إمكانات تقدم الحياة البشرية التي تقدم المعرفة البشرية الإيجابية للفرد وللمجتمع". ويستدرك:"إلى جانب ذلك، يجب على المسلمين اليوم أن يصلوا إلى نقطة احترام أنفسهم، لكي يحظوا باحترام الآخرين لهم، ويجب عليهم أن يعرفوا أن العالم اليوم يقوم على أساس الثقة المتبادلة التي يحتاج بناؤها وقتاً أكثر بكثير من الوقت اللازم لهدمها". لا جدوى من أن ينتظر المسلمون الغرب حتى يفهمهم ويفهم قيمهم الدينية والسياسية والاقتصادية، بل ينبغي على المسلمين أن يؤمنوا بالله إيماناً صادقاً، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقرر مصير التاريخ البشري، على رغم كل ما يدبره الغرب أو الشرق. فلذلك يجب عليهم ويحق لهم أن يقتبسوا من الغرب كل ما ينسجم مع المجتمع المسلم في الأمور الخمسة السابقة الذكر، ألا وهي القرآن والشريعة والرسول والجهاد والمرأة. لافتاً إلى"المرأة...وهناك 5 أمور غير مفهومة عن الإسلام في الغرب، هي: أولاً: القرآن الكريم: الناس في الغرب لا يريدون أو لا يستطيعون أن يفهموا أن القرآن الكريم عند المسلمين كافة الكلام المنزل من عند الله غير قابل للتغيير والتبديل،"إنه لقول فصل وما هو بالهزل"الطارق 13 - 14. ثانياً الشريعة: الغرب لا يدرك أن الشريعة الإسلامية للمسلمين هي التشريع الديني والدنيوي في الوقت نفسه. ولعل سوء الفهم للشريعة الإسلامية في الغرب يأتي بسبب سوء التجربة الغربية التاريخية مع الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تطبق القانون الكنيسي بدعوى أنه القانون الإلهي على طريقة سيئة. ثالثاً: محمد رسول الله: الغرب المسيحي واليهود فيه كما يشهد ستيفان شواتز"لا يقبلون محمداً على أنه رسول أرسله الله بدين يخافون منه. اليهود ينكرون بأن عيسى عليه السلام هو المسيح، ولكن الكثيرين منهم يقبلونه على انه معلم ديني كبير. وهم لا يظهرون حتى ولو نزراً يسيراً من هذا تجاه محمد، ومعظم الغربيين يعتبرون الإسلام عقيدة كريهة عدوانية تعصبية متعطشة للدماء، وغير المسلمين يظهرون محمداً على أنه ضال وشرس ومخادع. وبهذه الآراء المسبقة المشوهة أبدع اليهود تصورات سيئة عن المسلمين في العالم. وبالأسلوب نفسه نجد النصارى المتعصبين ينشرون الأضاليل عن أن الله الذي يعبده محمد ليس الإله نفسه الذي يؤمن به اليهود والنصارى". رابعاً: الجهاد: إنّ الغرب يفهم من كلمة الجهاد شيئاً واحداً فقط: العنف والإرهاب والحرب ضد الغرب ومؤسساته السياسية والاقتصادية. ومهما يحاول بعض المسلمين أن يبينوا أن لكلمة الجهاد معاني نبيلة لتربية النفس الإنسانية، فالغرب لا يريد أن يستمع إلى تلك البيانات، بل يرد عليها بكلمته المشهورة ألا وهي كلمة الصليبية Crusade التي يفسّرها الغرب بأنها تعني الحرية والديموقراطية، ولكنها بالنسبة إلى المسلمين تعني شيئاً واحداً فقط ألا وهو الحرب ضد الإسلام والمسلمين. خامساً: وضع المرأة: الغرب لا يفهم أن المرأة عند المسلمين حرم بمعنى أن لها ذاتها وشخصيتها الإنسانيتين. نعم، هناك بعض الناس من المسلمين الذين يعاملون النساء معاملة سيئة، ولكن هذا ليس ناجماً عن تعاليم الإسلام، بل هو بالعكس بسبب عدم تطبيقهم لتعاليم الإسلام، فالعفة، والحياء الذي هو نصف الإيمان، والحجاب والإنفاق على النساء ومعاملتهن بالمعروف، وإنقاذ البنات من الوأد"وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت"التكوير 8 - 9، كل هذا جاء مع الإسلام، حين لم يكن الغرب يُذكر، وحين كانت المرأة فيه تذكر بالسوء ليلاً ونهاراً، كما أن الشرق يختلف مع الغرب في عدة أمور، هي: أولاً: الحريَّة: الشرق، الذي نعني به هنا العالم الإسلامي عموماً لا يرفض فكرة الحرية كمبدأ نحو التقدم البشري والتاريخي، ولكن الشرق لا يفهم الحرية على أنها اتجاه نحو الشر، مثل الخمر والمخدرات والشذوذ الجنسي والإباحية، وغير ذلك من الشرور الاجتماعية التي تسعى بعض الدوائر في الغرب إلى تبريرها باسم الحرية، بل إن الشرق - انطلاقاً من القيم الشرقية السامية والعريقة - يفهم الحرية بمعنى"حرية اختيار الخير بدلاً من أي شر". ثانياً: الديموقراطية - الشرق ما زال يتردد في قبول النظام الديموقراطي القائم على أسس شرعية السلطة التي تبنى على حق المواطنين بالتصويت، فالشرق لا يريد أن يفهم أن الشعوب المسلمة بلغت درجة من النضج تمكنها من حسن اختيار ممثليها الذين سيقودونها نحو مجتمع أصلح وعدل اجتماعي أفلح. ثالثاً: المؤسّسة: الشرق لا يفهم أهمية المؤسسات في الغرب، وما يزال الشرق يستند في كبريات قضاياه السياسية والاجتماعية وحتى الدينية إلى الأفراد، بعيداً عن المؤسسات التي تضمن له استمرار الحياة والتاريخ، وانتقال المسؤوليات السياسية والاجتماعية بصورة سلمية، وكما يقال: لا يمكن تحقيق الخير في التاريخ البشري من دون إنسان صالح، ولكن لا يمكن للخير أن يبقى دوماً في التاريخ إلا بالمؤسسات. رابعاً: حقوق الإنسان: لا حاجة لي هنا أن أذكّر بأن الغرب يستخدم دعوى الدفاع عن حقوق الإنسان ذريعة للتدخل المباشر في شؤون الشرق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولكن هذه الحقيقة المرة عن تعامل الغرب مع الشرق باسم الدفاع عن حقوق الإنسان لا تعفي الشرق من مسؤوليته عن تلاعبه بحقوق الإنسان في الشرق، بل يجب على الشرق أن يبادر برعاية حقوق الإنسان، لا ليبرئ نفسه أمام الغرب. خامساً: السياسة: إن المسلمين لا يفهمون سياسة الغرب تجاه المسلمين عموماً، وتجاه القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ومن المؤكد أن السياسة باعتبارها تعبيراً عن تفوق البعض تكنولوجياً وعسكرياً، يمكنها أن تهدد بخرق حقوق الآخرين من المتخلفين تكنولوجياً والعاجزين عسكرياً عن مقاومة الظلم والاضطهاد. ومن المؤسف أنه إذا أضيفت إلى ذلك الأفكار الدينية المسبقة المصحوبة بسوء النوايا والتصورات الثقافية الخاطئة عن قوم ما، فإن سياسة المتفوق لا تمتلك أعيناً ترى بها حقوق المستضعف، وفي تلك الحالة تسود قاعدة المتكبر السياسية، حيث الغاية تبرر الوسيلة. من دون الالتفات إلى معاناة المستضعف، وهنا يسود الهدف السياسي الذي يتألف من مصلحة المتفوق بالسيطرة على ثروات المستضعف المعنوية والمادية. وهذا ما لا يفهمه المسلمون من غايات سياسة الغرب: إذ إن غاياته السياسية والعسكرية والثقافية والدينية تبرر استخدام كل أنواع الوسائل، بما فيها تعذيب السجناء وقتل الأسرى.