تمر القضية الفلسطينية بأسوأ مراحلها على الإطلاق، اذ نجد الإخوة الفلسطينيين يتقاتلون في ما بينهم للسيطرة على ما تبقى من"فتات"الأرض الفلسطينية! من ناحية أخرى يقبع المحتل الإسرائيلي متفرّجاً راضياً ومسروراً بمّا يحدث... من هنا تبرز ضرورة وجود"الزعيم الرمز"في هذه المرحلة الدقيقة الصعبة والعصيبة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى. فبعد أن سيطرت حركة حماس وشركائها على قطاع غزة ومراكز السلطة، وبعد أن رأيتُ أفراداً من شرطة حركة حماس يدوسون بأرجلهم، ليس فقط على صورة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بل أيضاً على صورة الرئيس الراحل ياسر عرفات! وعلى رغم أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لطالما شكّل رمزاً موحداً لجميع الفلسطينين... كان الانقلاب"الحماساوي"على حركة فتح وتحطيم صور الرئيس شيئاً خارج عن المألوف! ففي العرف الفلسطيني كان يتّحد الجميع ضدّ العدو الإسرائيلي، حتى وإن اختلفت سياساتهم أو معتقداتهم، لكنّ الأحداث الأخيرة خصّوصاً ان منظر مشهد الفلسطينيين العراة مكبّلي الأيدي والهاربين من نار"حماس"الى جحيم اسرائيل كان الطامة الكبرى! ويبدو أنّ اختيار الرئيس عباس لخيار السلام، وعدم تردّده في الظهور العلني إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي غالباً ومراراً، حتّى وإن كان قد سبق هذا الظهور اعتداء اسرائيلي على غزة، أو إعلان بناء مستوطنات جديدة، أو إذلال للفلسطينيين على حواجز الفصل العنصري التي بنتها إسرائيل... قد جعل الرئيس الفلسطيني عباس مقبولاً لدى دولة اسرائيل ودول الغرب، ولكن أفقده شعبيّته بين الفلسطينيين الذين يتوقون إلى السلام مع اسرائيل، ولكن ليس بأي ثمن! خصوصاً أنّهم قد دفعوا الكثير من الأثمان الباهظة على مدى العقود الستّة الماضية. ويبدو جليّاً أنه لم يعد بإمكان القادة الفلسطينيين الموجودين خارج الأراضي الفليسطينيّة قيادة شعوبهم في الداخل أو حتى في الخارج! فلقد فقد السيد خالد مشعل استقلالية القرار السياسي بوجوده في دمشق، ومعظم الظن أنّه كان سيفقده على أيّة حال، حتى ولو وجد في أيّة عاصمة عربية أخرى، فلا أظن أنّه مرحّب به في أيّ من العواصم الغربية، لقد كانت هناك فرصة لمشعل لملء الفراغ، لو أنّه أبدى مرونة أكثر مع إخوانه الفلسطينيين مناصري حركة فتح في غزّة، ومنع الاقتتال الداخلي بينهم وبين"حماس"، وإهانة الفتحاويين ورميهم للإسرئيليين... ولكنّه اختار أن يكون زعيم"حماس"وليس زعيم فلسطين، أو ربما لم يكن يملك القرار السياسي... وفي كلتا الحالتين لقد فقد الفرصة ليكون"الزعيم الرمز"لجميع الفلسطينيين. ولعلّ هذا الفراغ الخطر في وجود"الزعيم الرمز"للفلسطينيين هو أكثر ما يهدّد القضية الفلسطينية، فضلاً عن وجود زعيم يرقى فوق الخلافات العربية، والتناحر بين الفصائل الفلسطينية، ويضع نصب عينيه مصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الأساسية، ألا وهي احتلال الأراضي الفلسطينية والاستيطان، وسياسة فرض الأمر الواقع، فما أحوج الفلسطينيين إلى أمثال مانديلا أو غاندي ليوحدّهم في أرضهم ويقودهم نحو دولة مستقلة عاصمتها القدس. والشخصية الأقرب إليهم في رأيي المتواضع هي المناضل"مروان برغوثي"، الذي يرزح في السجون الإسرائيلية! وبقاؤه في هذه السجون هو شارة فخر يزيّن بها صدره، وتزداد هذه الأوسمة والنياشين، مع كل يوم أو شهر أو سنة إضافية يقضيها في السجن الإسرائيلي! فهو الأقرب في نضاله المشهود له، وفي حسن سمعته وعدم تلوثها بالفساد الذي لطّخ سمعة الكثير من سياسيي فتح، وجعل حماس أكثر شعبية. كما أن مروان برغوثي لدية مقوّمات الزعيم الموحّد للفلسطينيين لأنه ابتعد عن الخلافات الداخلية، وسعى لوحدة الفلسطينيين والوقوف في وجه عدوّهم، الذي يسلب أراضيهم، ويبني عليها المستوطنات، ويقطع ما تبقّى من أراضيهم بالجدار العنصري الفاصل. أمّا الشهيد عرفات، فعلى رغم كثرة أعدائه في الداخل والخارج، وعلى رغم بعض أخطائه في حق إخوانه العرب، إلاّ أنّه لعب دور"الزعيم الرمز"للفلسطينيين ببراعة! يشهد بها له أصدقاؤه وأعداؤه على حدٍٍ سواء، وكان الزعيم الموحّد لجميع الفلسطينيين، وتنقّل بين جميع العواصم العربية حتى ولو في أسوأ أحوال الفرقة العربية، كما لم تستطع الفرق الخارجة عن منظمة التحرير أن تكسب تأييد جماهير الشعب الذي وقف وراءه في كل الظروف. ولم يكن الزعيم عرفات محبوباً لدى الغرب، وأستطيع القول إنه كان مكروهاً! ولكنه عرف كيف يفرض نفسه على الجميع، لأنه كان يمثّل الغالبية من الفلسطينيين ولم ينافسه أحد حتى وفاته."فالزعيم الرمز"يجب أن يكسب حب واحترام شعبه، وليس مهمّاً أن يكون مقبولاً لدى الغرب أو أميركا بالتحديد! إنّ نلسن مانديلا لم يُرفع من قائمة الإرهاب الأميركي إلاّ قبل أسابيع من بلوغه التسعين من عمره! لقد وقف الرئيس عرفات أمام أعضاء مجلس الأممالمتحدة ليلقي خطابه على رغم عدم ترحيب الحكومة الأميركية بالأمر، كما جال العالم وأُلبس تهمة الإرهابي، ومع ذلك تمّ استقباله في البيت الأبيض بوصفه زعيم الشعب الفلسطيني. وكانت إسرائيل تدرك أهمية وخطورة"الزعيم الرمز"ياسر عرفات، لذا حاولت اغتياله مراراً جسديّاً ومعنويّاً، لكنّها لم تستطع أن تتجاوزه في محادثات السلام، فقد كان الورقة الأصعب! فهي لم تستطع النيل من مكانته لدى الشعب الفلسطيني والعربي الذين رأوا فيه رمز فلسطين الموحّد. ولم يخفِ الإسرائيليون سعادتهم لرحيله، ولقد كان هناك شبه اقتناع لدى أغلب العرب والفلسطينيين بأنّ عرفات قد سمّم أو قتل نظراً لغموض قصّة مرضه، ودفن سرّه معه. و"الزعيم الرمز"الفلسطيني ليس مهمّاً فقط لقيادة الكفاح الفلسطيني ومقاومة الاحتلال، بل أيضاً لإحلال السلام. فلولا وجود شخصية مثل منديلا لصعب تحقيق السلام في جنوب أفريقيا، فقد لعب مانديلا بشخصيته الوقورة في أوقات السلم دوراً لا يقلّ أهميّة عن دوره في أوقات الكفاح ضدّ حكومة الفصل العنصري، واستطاع بحكمته مدّ جسور التسامح بين أبناء الشعب الجنوب الأفريقي باختلاف أعراقه، ورفع غاندي شعار الوحدة وعدم التفرقة بين شعوب الهند، وخضعت بريطانيا العظمى حينها لذلك الرجل النحيل البنية، الشديد العزيمة، الذي ارتدى أبسط اللباس وقاد الثورة السلمية العظمى لتحرير الهند، ولو أنّ عرفات لم يصافح رابين لما استطاع بعده عباس أن يصافح أولمرت! [email protected]