لم يأت الرئيس الأميركي جورج بوش بجديد يذكر في خطابه الذي ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي، سوى تقديم ملخص لرؤيته الكونية التي قادت سياساته خلال فترتي حكمه، لا سيما تلك التي تتصل بمنطقة الشرق الأوسط. كان خطابه مليئاً بالاستعارات التوراتية البعيدة كل البعد عن اللغة السياسية المعاصرة، ولم يكن مفهوماً في العرف الدبلوماسي أن يوظف رئيس دولة كل هذا الكم من الشعارات والإسقاطات الدينية في خطابه. لكن قناعات بوش الدينية كانت وما زالت تملي خططه السياسية ومغامراته العسكرية، لا سيما تجاه المنطقة التي لا يرى فيها سوى"ديموقراطية وحيدة"محاطة بدول فاشلة وأصوليات متوحشة. بدا جورج بوش في موقع ضعف لا يتواءم مع كونه زعيم الإمبراطورية العظمى في العالم وهو يقول للكنيست:"إنه لشرف نادر لرئيس أميركي أن يخاطب الكنيست". ولم ينس جورج أن يتذكر صديقه أرئيل الذي التهمته غيبوبة أبدية قائلاً بنبرة أسى:"أسفي الوحيد هو أن واحداً من قادة إسرائيل ليس موجوداً هنا ليقاسمنا هذه اللحظة. هو محاربُ عُصور، رجل سلام، وصديق. صلوات الشعب الأميركي مع أرئيل شارون". هنا ضجت قاعة الكنيست بالتصفيق. كل مصيبة بعد هذا المديح لشارون جلل. ليست إسرائيل في عقيدة بوش الأصولية كياناً سياسياً فحسب، بل هي حتمية تاريخية مقدسة وأبدية فرضها الوعد الإلهي. يجسد بوش ذلك بقوله:"إنها إنجاز وعد قديم أعطي لإبراهيم وموسى وداود ? وطن للشعب المختار من بني إسرائيل". استشهد بوش بقول إرميا:"تعال لنعلن في صهيون كلمة الله". ومضى يذرف الدموع على ما قال إنها"قرون من المعاناة والتضحية مرت قبل تحقق الحلم". لكن"عذاب المذابح المنظمة والحرب العالمية وفظائع الهولوكوست... لم تستطع أن تنتزع روح الشعب اليهودي ولم تستطع أن تخلف وعد الله". إسرائيل أيضاً أنموذج للحرية والديموقراطية واحترام كرامة الإنسان. صاغ بوش هذه المعاني بعبارات بليغة مشيداً بما قال إنها"ديموقراطية مزدهرة في قلب الأرض المقدسة". ومضى مخاطباً أعضاء الكنيست بطريقة أصابت بعضهم بالذهول:"لقد رحبتم بالمهاجرين من زوايا الأرض الأربع. شكلتم مجتمعاً حديثاً قائماً على عشق الحرية، والشغف بالعدالة، والاحترام للكرامة الإنسانية. عملتم بلا كلل من أجل السلام. وقاتلتم ببسالة من أجل الحرية". إسرائيل كانت وما تزال واحة ديموقراطية وسط غابة من الديكتاتوريات، ولسوء الحظ فإن الكثيرين لا يفهمونها أو لا يقدرونها. يلوم بوش الأممالمتحدة على انتقاداتها المتكررة لإسرائيل. عار على هذه المنظمة، بحسب بوش، أن تصدر بشكل معتاد قرارات ذات صلة بحقوق الإنسان"ضد أكثر الديموقراطيات حرية في الشرق الأوسط". هذه الصورة الرومانسية لإسرائيل صنعت منها مثلاً يحتذى، ليس للدول المجاورة الغارقة في التخلف فحسب، بل للدولة العظمى في العالم: أميركا. يشير بوش إلى ذلك مؤكداً أن إعجاب الأميركيين بإسرائيل ظاهرة لا تنتهي، إذ ينظرون إليها بوصفها"روحاً رائدة أبدعت معجزة زراعية وتقود الآن ثورة تقانية متطورة"، مضيفاً:"إننا نشاهد في إسرائيل جامعات عالمية المستوى وقائداً كونياً في التجارة والاختراع والفنون. إننا نشاهد مورداً أغلى من النفط والذهب: الموهبة والإصرار لدى شعب حر يرفض أن يدع في طريق مصيره أي عقبة". ومرة أخرى يعيد بوش في خطابه أمام الكنيست إنتاج ثنائية"الخير"وپ"الشر"، قائلاً إن المعركة ضد أميركا وإسرائيل هي معركة الشر ضد الخير، مهاجماً المسلمين الذين يصلون لرب إبراهيم لكنهم يرتكبون"أعمالاً وحشية لا تخدم هدفاً أسمى من رغبتهم الذاتية في السلطة"، ويحملون في قلوبهم"كراهية خاصة"لسدنة الحرية بمن فيهم الأميركيون والإسرائيليون. يستخدم بوش هنا مفهوماً شائعاً في الخطابة السياسية هو التماهي IDENTIFICATION القائم على إشعار الجمهور بتوافق القيم والأفكار والاشتراك في الآمال والآلام. أميركا وإسرائيل في قارب واحد، وتواجهان عدواً مشتركاً. عندما تقاتل إسرائيل"الشر"و"الإرهاب"، فإنها لا تقاتلهما وحدها بملايينها الستة أو السبعة، بل ب300 مليون إنسان هم تعداد الشعب الأميركي، وفقاً لوعد بوش. عادة ما يقال إن إسرائيل تشن اعتداءاتها على الشعبين الفلسطيني واللبناني بعد حصولها على"ضوء أخضر"أميركي، لكن الذي قدمه بوش في خطابه أمام الكنيست أكثر من مجرد ضوء أخضر، بل دعوة صريحة إلى مزيد من العنف والعربدة في المنطقة، وهي دعوة لم يسبقه إليها رئيس أميركي من قبل. أكد بوش أن بلاده تقف مع التوأم الإسرائيلي في"تفكيك الشبكات الإرهابية وحرمان المتطرفين من المأوى". بوش لم يأت إلى المنطقة ليسوّق خدعة"الدولتين"التي استنفدت أغراضها، بل ليدفع إسرائيل، وهي التي لا تحتاج إلى دفع، إلى ممارسة مزيد من الإرهاب والحصار ومزيد من الرفض للتسوية ووقف الاستيطان وكل مشاريع التهدئة. استخدم بوش في خطابه أمام الكنيست كل مخزونه اللغوي الذي طوره منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر والمرتكز على الأضداد الفارغة العدل والظلم، التطرف والتسامح، الخير والشر، الحرية والهمجية زاعماً أن على أميركا وحليفها الإسرائيلي مسؤولية تقديم رؤية بديلة عن أيديولوجية التطرف قائمة على"العدالة والتسامح والحرية والأمل"، وكلها مصطلحات تجريدية هلامية تفتقر إلى العمق لكنها تؤدي دورها في دغدغة المشاعر وخدمة الدعاية. كيف يمكن أن يقدم الحليفان هذه الرؤية؟ طبعاً عبر ممارسة العنف وسحق حركات المقاومة و"تحطيم الأنماط القديمة للاستبداد واليأس". يمكن أن يشهد الشرق الأوسط تحولاً شاملاً عبر حروب طويلة الأمد، أو بحسب تعبير بوش، عندما يمتلك"جيل جديد من القادة الشجاعة لهزيمة أعداء الحرية.. والوقوف بحزم على الصخرة الصلبة للقيم الكونية". وحدها إسرائيل بمساعدة الولاياتالمتحدة تستطيع إنجاز هذه"التحول". يتقمص بوش ثوب الكاهن أو الحاخام متنبئاً بأن إسرائيل ستعيش 60 عاماً أخرى من عمرها المديد، وستكون وقت احتفالها بميلادها ال120"إحدى ديموقراطيات العالم العظيمة، ووطناً آمناً ومتألقاً للشعب اليهودي". أما الفلسطينيون فستكون لهم حينها دولة"تحترم حقوق الإنسان وترفض الإرهاب"، وسيدرك المسلمون عبر المنطقة"عقم رؤية الإرهابيين وبطلان دعواهم". المنطقة على موعد مع عقود طويلة من العنف، بغرض تأهيل شعوبها للتماهي مع هذه الرؤية. يستشرف بوش الغد متخيلاً إسرائيل جنة وادعة في منأى عن"هجمات الصواريخ والتفجيرات الانتحارية". لكن هذا الحلم الذي طالما داعب هرتزل وبن غوريون وغولدا مائير سيواجه كما قال"بمقاومة عنيفة"قبل أن تصبح إسرائيل محصنة ضد"الإرهاب". يستدعي بوش روح المحاربين الصليبيين وهو يتذكر في ختام خطابه قصة جندي بريطاني قدم إلى حاخام يهودي قبيل الإعلان عن تأسيس الكيان الإسرائيلي مفتاح مدينة القدس، قائلاً إنها المرة الأولى خلال 18 قرناً التي يتسلم فيها يهودي مفتاح بوابات المدينة المقدسة. لا بد أن هذا الحاخام يشعر بالفخر وهو يرى اليهود يبنون"مجتمعاً حديثاً في أرض الميعاد، نوراً ممتداً إلى الأمم يحفظ ميراث إبراهيم وإسحاق ويعقوب". حماسة بوش لإسرائيل تجلت في كلامه حول قلعة مسعدة أو مسادا، 30 ميلاً جنوب شرقي القدس. وفقاً لإحدى الأساطير اليهودية فإن الرومان بقيادة فليبوس سيلفا حاصروا هذه القلعة عام 73 بعد الميلاد، وكان يتحصن فيها نحو ألف يهودي. عندما شعر اليهود بدنو النهاية انتحروا جماعياً مفضلين الموت على الوقوع في أسر الرومان. بوش الذي زار المكان الذي يقسم عنده الجنود الإسرائيليون ألا يسقط ثانية، هتف بتشنج مردداً القسم نفسه:"سوف لن تسقط مسادا مرة أخرى". كرر بوش القصة في خطابه الأسبوعي في السابع عشر من أيار مايو 2008 واصفاً مسعدة بأنها"مزار ملهم للشجاعة والتضحية اليهودية في القرن الأول". لا شك أن بوش وحلفاءه الإسرائيليين يستحثون - عبر سياسة العنف والكراهية وازدراء الفلسطينيين وخنقهم بحصار همجي يتضاءل عنده حصار الرومان - حدوث مذبحة ينتحر فيها اليهود بطريقة أكثر بشاعة ودموية. الباحثة كارن آرمسترونغ أشارت إلى هذا المعنى بقولها إن بوش يعتقد أن"الله اختاره ليقود العالم إلى لحظة عودة المسيح"، بيد أن المسيح لن يعود قبل أن يحكم اليهود قبضتهم على الأرض المقدسة عبر سلسلة من"المذابح الإبادية". هذا"المزيج الغريب من الأفكار"ربما يفسر دعم بوش"غير المشروط لإسرائيل، واستعداده لاستخدام أسطورة"محاربي آخر الزمان من اليهود"لتحقيق رؤية له تقف.. ضد أفضل مصالح إسرائيل.."الغارديان، 31 كانون الثاني/ يناير 2006. لن تنجح أساطير بوش الدينية ولا حيله البلاغية ولا تحريضه على القتل وتشويهه حقائق الصراع في سحق إرادة المقاومة والممانعة للمشروع الصهيوني، كما لن تنجح في إنقاذ هذا المشروع، لأنه قام على العنف، ولا يملك سوى العنف استراتيجية للبقاء. * أكاديمي وصحافي سعودي. [email protected]