يتذكر معظم الشباب العرب دروس الجغرافيا في المرحلة الابتدائية التي كانت تكرس معلومة أن مصراً والسودان مثلاً تضمان أكثر من نصف الأراضي القابلة للزراعة في العالم العربي أجمع، ولم يكن احد ليفهم المعنى الاستراتيجي بقدر اعتبار المعلومة إضافة تلقينية أخرى للصغار عليهم حفظها لذكرها في الاختبار. تغيرت المناهج التعليمية وتطورت، وتغيرت العقليات السياسية والاقتصادية، لكن ظلت المعلومة على ارض الواقع ثابتة، إذ لا يزال النيل يبث الحياة في هذه الأراضي منذ آلاف السنين، كما سيفعل لآلاف السنين. ومنذ عقدين من الزمن تنبه بعض رجال الأعمال في الخليج ومعظمهم في السعودية إلى أهمية الرز مثلاً كسلعة غذائية مفضلة وبدأوا في استئجار المزارع، في دول آسيوية عدة، ثم في تملك بعضها، وبعضهم انشأ شراكات استراتيجية مع الملاك والمزارعين أخذت وضعها القانوني المستقر سعياً وراء ضمان إمدادات مستمرة، وضماناً لاستثماراتهم في تطوير السلالات، وتحسين جودة المحصول ومقاربته للذائقة السعودية التي تتعامل مع الرز بطريقة مختلفة لجهة الإعداد والطبخ. وكعادته دائماً، يأتي الاقتصاد بديلاً ملائماً للسياسة في مسألة كسر الحواجز، وتقريب المصالح، وتبادل المنافع، وتحقيق تطلعات جميع أطراف معادلته من البائعين والمشترين، أو المنتجين والمستهلكين، أو حتى من يملكون أدوات الإنتاج ومن يملكون في الجهة المقابلة آلية تشغيل هذه الأدوات أو تطويرها. ويأتي تفكير السعودية على المستوى الحكومي الرسمي في تشجيع الزراعة في الخارج، وتسهيل الشراكات، وإنشاء الشركات في هذا الاتجاه كواحدة من أهم خطوات تبادل الاستثمارات حيث سيستثمر السعوديون رؤوس أموالهم، وخبراتهم الصناعية، والتسويقية المعروفة، وسيستثمر المستضيفون أراضيهم الخصبة، ويشغلون الكثير من اليد العاملة، وسيتجه طرفا المعادلة هذه المرة إلى مزيد من القوة والأمن الغذائي وتنويع مصادر الدخل. ويعتقد المراقبون أن السعوديين كمستثمرين سيكونون مرحباً بهم إن جاءوا تحت مظلة شركات القطاع الخاص أو مظلة الحكومة، فسجلهم الاستثماري يخلو تماماً من الإشكالات القانونية، وسجلهم الائتماني في ما يتعلق بالمدفوعات والالتزامات المالية يعد الأفضل بشهادة بيوت التقويم والتصنيف المالي العالمي الذي يرفع السعودية عاماً بعد عام، فضلاً عن تاريخ معروف في الالتزامات الاقتصادية الدولية على مستوى الحكومات والشركات العالمية العملاقة. لن يكون صعباً على السعوديين الحصول على التراخيص اللازمة، وتوقيع الشراكات الاستراتيجية في هذا الاتجاه، ولكن ربما يحتاج توجيه البوصلة إلى تأن وتفكير عميق، إذ إنها هذه المرة ستبحث عن المكان الآمن المستقر شأنها شأن أي مستثمر حصيف، وهي مستعدة لجعل دخولها إلى أي مكان إحدى دعائم الرفاة والاستقرار له ولمواطنيه. * كاتب سعودي.