لا يزال في الوقت متسع هذه أول عبارة خرجت تتأرجح من فمه ليدلقها على مسمعي، فكرت بعبارته تلك وتحركت من ذهني قافلة من الأسئلة. ترى هل ننسى كيف كنا نسبح من صباحات الفجر أغنية أو ننسى كيف كنا نصنع من شعاع الشمس أشرعة؟ ثم صمت وقال: أنت ما زلت ملتحفاً ببياض القرى، وما زال في الوقت متسع لاكتشاف هذا العالم من حولك... وصمت. عدل من وقفته، وأخذ يصلح غترته وقال لي: الموضوع قد يطول نقاشه فأنت مدعو غداً لوجبة عشاء، سأكون في انتظارك في تمام الساعة الثامنة مساء. قفل راجعاً نحو سيارته وأدار أحد الأشرطة التي يتبجح في اختيارها، فهو مغرم بشراء كل جديد في عالم الكاسيت. أرجع سيارته للخلف وقال لي: سوف أنتظرك، لا تنس، إنني أعرفك دائم النسيان، وحتى لا تذهب تكاليف العشاء هباء قالها مازحاً وابتسم. بادرني قائلاً... أنت كما أنت لم يطرأ عليك أي تغيير منذ افترقنا، هدوؤك... ابتسامتك... أسلوبك المرح مع الآخرين، كل هذه الأشياء حاولت أن أكتسبها لكنني فشلت لا أدري لماذا؟ هل هذا راجع إلى نفسيتي المحطمة تجاه الأشياء من حولي حتى الحارة التي عشت فيها كنت نادراً ما ألعب مع الأطفال من أقراني، فهم يخافون مني لأني كنت عنيفاً وفوضوياً معهم حتى كانوا يسمونني بال... وترسخت هذه المقولة في أذهان الأطفال الصغار حينها ضقت بهم، وخرجت متنقلاً إلى حارة أخرى. جدتي المسكينة تخاف علي كثيراً، ما زلت أذكر حينما جئتها وقد شجّت جبهتي، وكيف أقامت الدنيا وأقعدتها من أجلي، إنني أحبها وأخاف أن أفقدها في أية لحظة فعندما أهم بالخروج تودعني كثيراً وتقبلني، وتقول لي لا تسرع في الطريق وهي لا تزال على ذلك الحال حتى ينفر الدمع من عيني. جدتي هي كل شيء لي فأنا دائماً أحدثها عنك، وأصفك لها وأقول إني سوف أصطحبك معي لتراك، ودائماً ما أخلف وعدي، وانتحل كل الأعذار، وهي تبارك في ذلك، جدتي ستعمل وجبة العشاء بنفسها احتفاء بقدومك إلينا، حينما حرك سيارته قال لي: لا يزال في الوقت متسع. تورد تنبت الكلمات على شفتيها فتورق خوفاً، احذري أن تخرجي وحيدة، والبسي فستانك الطويل، واجعليه يستر جسدك كاملاً، والبسي عباءتك الثقيلة المسترسلة إلى الأرض، واحذري أن تتعطري فأوان التورد لم يحن بعد ولا تنسي أن تأخذي أخاك الصغير لكي لا يعترض طريقك أحد، واحذري الذين يجلسون على قارعة الطريق فأعينهم تلتقط كل شاردة وواردة، وحين تذهبين لا تتأخري وتكلمي بصوت خافت حتى لا يسمعك من حولك، وإن أتاك أول الخاطبين لا تترددي، واحذري أن يسبقك الزمن فلا تجدي من يؤنس لياليك. تجلس أمام المرآة طويلاً، تجدل شعرها الليلي، تتأمل تورد وجنتيها وجسدها البض داخل ذلك الفستان، فجأة حدقت في وجه المرآة. ترى لماذا وضعت هذه المرآة؟ تتذكر وقفتها الطويلة، ثم تميل بوجها لكي تبحث عن شيء، لا تدري ما هو؟ فكرت في الكلمات التي نثرت على مسامعها، والتي ما زالت عالقة في ذهنها. ترى لماذا؟ تضحك في داخلها، وتجلس متسمرة، تميل برأسها يميناً وشمالاً كأنها تراقص تلك المرآة حينها ترمدت الكلمات على شفتيها، فأورقت إغفاءة عميقة.