هجم الزمان بمادياته وتقنياته وإيقاعاته السريعة، وأسهمه المتذبذبة علينا ليطفئ شمعة كانت مشتعلة لسنين عدة تضيء القلوب بالمودة والإخاء والتعاون، بضوئها البسيط، مقارنة بالأضواء الأخرى ببهارجها الخادعة، شمعة أضحت بالكاد تضيء، بل تُركت لتحترق بالكامل من دون أن يدرك من حولها أنها كانت سبب سعادتهم وبقائهم أحياء، فلا هم حافظوا عليها، ولا هم أشعلوا غيرها، إذ انشغلوا عنها واستغنوا بأشياء سطحية عن أشياء جوهرية، شمعة احترقت في مقابل شموع أخرى براقة ضوؤها له بريق السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده سوى ظلال رمادية باهتة، فيزداد تيهاً على تيهه في محاولة يائسة أخرى يبحث فيها عن شمعة أخرى تضيء له الطريق، وهو يردد في نفسه متيقناً: شمعة بأيدينا أطفأناها بجهالتنا! ولعلك الآن - عزيزي القارئ - تسأل ما تراها تكون تلك الشمعة؟ أقول - وبأسف عميق - إنها شمعة صلة الأرحام والأهل والجيران التي خبت في زحمة الحياة الصاخبة، خبت حتى بالكاد نراها مضيئة في مناسبات وأوقات معينة، يرى فيها القريب قريبه ليسأله: كيف حالك، منذ زمن لم أرك؟ فيرد عليه الآخر بقوله: إيه إنها مشاغل الدنيا! وآخر ترى علامات الاستعجال على وجهه وكأنه يقول:"أتيت مجبراً وسأذهب مستعجلاً"وترى آخر ? أيضاً - يشيح بوجهه عن الذي لم يره منذ سنين، لأنه ببساطة نسي معالم وجهه، أو بالأحرى نسي أنه قريب له أصلاً، وآخر بعد التحية والسلام يتفاجأ بأن قريبه هذا لم تنته بعد نقاهته من جراء الجراحة التي أخضع لها، وآخر، وآخر الخ، إنها مواقف يتيقن بعدها الإنسان أنه خسر علاقاته، وانحصر في نقطة وجود واحدة، يفيق بعدها على الحسرة والندم، حين يرى نفسه وحيداً إلا من نفسه أو من هموم الحياة التي شغلته فبقي وحيداً إلا من بعض المعايدات الهاتفية أو الرسائل الجوالية أو المصالح الشخصية التي تجمع الناس، ثم تستمر الوحدة إن لم يبادر إلى معالجة هذا الانقطاع الوجداني والشعوري لحاجة غريزية كامنة في النفس، خصوصاً بين من تجمعهم قرابة الدم. أما الوصفة العلاجية لهذه الظاهرة فهي غاية في البساطة، فالإسلام يأمرنا بالوصال ويحثنا عليه، بقوله: الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله فهل هناك علاج منشط أعظم من هذا؟ أعظم من وصل الله سبحانه لنا بمجرد وصلنا لما أمر الله به أن يوصل؟ أم سنترك العلاج وتتخاطفنا مشاغل الحياة بلهاثنا وراءها وهمومها لنصل الى ما وصل إليه إنسان الغرب الذي يتأذى متحسراً من وحدته التي أجبرته على أن يحتضن القطط والكلاب، ويعيش معها ويكلمها، يحتضنها كتعويض عن حرمانه العاطفي والاجتماعي في عزلته ووحشة حياته، وحين يهاتفه قريب له كيف حالك يرد مفتخراً بأن ثمة ما يعوض وحدته فيقول:"بخير، فقطتي في حضني"! [email protected]