كانت فاطمة النيسابورية من العابدات المجاورات في مكةالمكرمة. قال ذو النون المصري:"ما رأيت أجل من امرأة رأيتها بمكة يقال لها فاطمة النيسابورية، وكانت تتكلم في فهم القرآن. ولية من أولياء الله، وهي أستاذي". وقد كان للمرأة حضور مميز في مجالس الذكر، لا يمكن نكرانه، فعن عون بن عبدالله قال:"كنا نجلس إلى أم الدرداء، فنذكر الله عز وجل عندها". وقال يونس بن ميسرة بن حلبس:"كنا نحضر أم الدرداء نقوم الليل كله حتى تنتفخ أقدامنا". أورد تقي الدين الفاسي في كتابه"العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين"تراجم لأكثر من 250 امرأة من المكيات اللاتي أجيز لهن التحدث والإفتاء والتدريس، والأخذ عنهن القرآن الكريم، والحديث، والفقه، وإذا تبحرنا في بطون كتب السير، والتراجم، نجد ذكر المئات من النساء اللاتي قيل فيهن: سمعت من زيد وعمرو وأجيزت، وسمع عنها زيد وعمرو وأجازته، بل إن الكثير من علماء العالم الإسلامي جاءوا إلى الحجاز، لنيل الإجازة من بعض السيدات العالمات الفقيهات. فهل كان السماع والتدريس والإفتاء عن طريق"الدائرة التلفزيونية المغلقة"؟ كانت النساء العالمات إذا جئن المدينةالمنورة يلقاهن طلاب العلم والعلماء ويستفيدون منهن. ويذكر ابن رشيد الفهري في سرده لأحداث رحلته إلى المدينة أنه التقى بأم الخير فاطمة بنت إبراهيم البطحائي في مسجد رسول الله"صلى الله عليه وسلم"وقرأ عليها، وأعطته إجازة خطية بجميع مروياته. وأم الخير التي فتحت درساً للحديث، صارت من مشاهير المحدثين فيها، وانتفع بها أهل المدينة، قال محمد ياسين الفاداني:"أمة الله بنت عبدالغني الدهلوية المدنية مسندة المدينةالمنورة المعمرة القانتة ذات الأدب الراقي والعقل الراجح العالمة الفاضلة. بدأت بقراءة القرآن الكريم على والدها. ثم قرأت عليه في الفقه الحنفي كتباً وفي النحو والصرف، ثم عنيت بعلوم الحديث الشريف... واعتنى بها والدها اعتناءً كبيراً، إذ إنه لم يلق أحداً من مشايخ الحديث إلا وعرضها عليه... وبعد وفاة والدها احتاج الناس للأخذ عنها فكان المشايخ يحضرون لمنزلها للسماع والاستجازة". ولا شك أن وجود مثل هؤلاء النساء العالمات في المجتمع المدني يعني أن انتشار العلم والثقافة بين النساء في بلد رسول"صلى الله عليه وسلم"كان أمراً محبباً. وكذلك فإن حرص طلاب العلم من الرجال على أخذ بعض العلوم من النساء العالمات، والفتيا من الفقيهات، يظهر مدى الاحترام الذي كان يحمله هذا المجتمع للمرأة المسلمة المثقفة. وهذه كلها ظواهر حضارية عالية صنعها الإسلام في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة في ذلك العصر. كما كان لنساء المدينةالمنورة دور كبير في انتشار الحديث في بقاع الأرض التي وصلتها راية الإسلام، فعلى سبيل المثال، كانت تعيش في مدينة رسول الله"صلى الله عليه وسلم"جارية تسمى عابدة المدينة، وهي أم ولد حبيب بن الوليد المرواني المعروف ب"دحون"، اشتراها محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبدالملك بن مروان في رحلته إلى الحجاز، وقدم بها الأندلس، ثم وهبها لدحون. روت عن مالك بن أنس رضي الله عنه وغيره من العلماء الكثير. وابن عساكر حافظ الأمة كان من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء. فهل سمع الناس في عصر من العصور، وأمة من الأمم، أن عالماً واحداً تلقى عن بضع وثمانين امرأة علماً واحداً؟ وكم من عالمة من لم يلقها أو يأخذ عنها أحد؟ أورد الكاتب محمد دهمان، نقلاً عن مخطوط في المكتبة الظاهرية في مدينة دمشق، في باب تدريس النساء للرجال وللنساء معاً ما نصه:"سمع المجلس على الشيخة الصالح المسندة أم محمد، أسماء بنت محمد سالم بن الحسن بن هبة الله ابن محفوظ بن صرصري التغلبي الربعي، بسماعها عن مكي بن علان، الجماعة: عماد الدين أبوبكر، وعلاء الدين بن أحمد الجبرتي اليمني الشافعي، ولطيفة بنت عماد الدين محمد علان القيسي، وفتاتها ألفية ويقطينة ولؤلؤة جاريتا المسمعة، وفاطمة بنت عبدالله لاجين. وصح ذلك سنة ثماني وعشرين وسبعمائة بمنزل المسمعة بالقباقيين بدمشق المحروسة. وأجازت لنا جميعاً ما يجوز لها روايته". ومن العالمات المسلمات اللاتي كن يدرسن بحضرة الرجال دهماء بنت المرتضى في مدينة ثلا، وزينب المقدسية التي كانت تدرس في جامع بني أمية. وكان بين طلابها ابن بطوطة. الذي قال في"رحلته":"في ذكر سماعي بدمشق ومن أجازني من أهلها سمعت بجامع بني أمية على الشيخ شهاب الدين... والشيخة الصالحة زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبدالرحيم المقدسي". وقد وصف الذهبي أن الطلاب من الجنسين كانوا يتزاحمون عليها. وفي الجامع عينه، كانت تدرس أم الدرداء الصغرى، وكان لها حلقة يحضرها عبدالملك بن مروان. وفي مسجد بغداد كانت هناك الدينورية، وكان من طلبتها ابن الجوزي والتعاويذي. ونفيسة بنت الحسن كانت لها حلقة في مصر، ويحضرها الإمام الشافعي. وفاطمة بنت أحمد بن يحيى ت 840ه العالمة الفاضلة الفقيهة قال عنها والدها العالم الفقيه: إن فاطمة ترجع إلى نفسها في استنباط الأحكام. وكان زوجها الإمام المطهر يرجع إليها في ما يشكل عليه من مسائل فقهية، فكانت عندما يرجع إلى تلاميذه، ليشرح لهم في ما أشكل عليهم يقولون:"ليس هذا منك بل من خلف الحجاب". ورابعة بنت إسماعيل، عابدة من عابدات مكةالمكرمة، التي ولدت سنة 145ه، وأقامت بمصر سبع سنين، لما دخل الإمام الشافعي مصر كل يتردد إليها. وأخيراً يكفي القول: إن النسخة المعتمدة التي نوه بها الحافظ بن حجر العسقلاني في"فتح الباري"، والتي اعتبرها من أهم النسخ، هي نسخة المحدثة كريمة بنت أحمد المروزية. * باحث في الشؤون الإسلامية