نحتاج إلى كثير من الوقت، ومزيد من الصبر حتى نستعيد توازن أرواح تنكسر وتضعف حين نقرأ قصصاً اجتماعية توغل في الحزن والألم وأحياناً - أكثر قسوة - تنتفي منها معاني الإنسانية ويغادر بفعلها الضمير بلا رجعة، حين نقرأها نشعر بالحنين للماضي، والحاجة إلى العودة للوراء لعل هناك ما يشفع لئلا نفاجأ ذات صباح بمآس موجعة ننطلق على إثرها لإعادة حسابات لأفراد مجتمع يبعثرون حبات عقد الأحلام والأماني، بلحظة واحدة متجردة من كل شيء. "شرعاء"الطفلة ذات التسع سنوات انقض عليها وحش كاسر ليحطم أضلاعها، ويهشم رأسها، ويقتل كل ما فيها من براءة الطفولة والطموح والأمل ويبقي شيئاً من ملابسها ورائحة المكان الذي بكت فيه سنوات تسع مع أمها وأخيها، دفع بها ? منزوع الإنسانية - بريئة ومن دون رحمة إلى النعش الأخير، وفرّغ كل طاقات وحشيته في جسدها الغض، ولم يكن من قاصم للظهر إلا أنها حدثت بمجتمع مثالي مؤمن... يتمسك بالفضائل، إلا أنه علينا أن نعترف ? الآن - بأننا غير مبرئين من الخطايا، والدليل هذا والد"شرعاء"الذي سقط عاراً لأنه الوحش القاتل البشع، والميت أبوة وضميراً وإنسانية! نحن نواجه مشكلات جوهرية حقيقية، لكن لا يمكن أن نتخيل جنون عقل بشري متمثلاً في أب فقد وعيه الإنساني، يصر على أن تغيب ابنته عن الحياة بلا ذنب، وقد بحثت جاهداً عن سبب مقنع أو مبرر كاف لهذا الانقضاض الوحشي على طفلة لا حول لها ولا قوة، فلم أجد كلمة واحدة علني أخرج بها مبرراً لحيثيات دفاع عنه في القضية الكارثة! هذه المرة انكشف الستار عن أب قاتل لطفلته عرفناه وهو الآن ينتظر كلمة العدالة التي ستقرر مصيره... ولكني أخشى أن يكون بيننا أكثر من أب قاتل لم ينكشف عنه الستار، وأكثر من طفلة مثل"شرعاء"لم نعرف بمقتلها بعد، أو أنها تعاني العذاب قبل أن تفقد حقها في الحياة، وتعيش جحيماً متواصلاً، لم يهتد إليها من يكتشف معاناتها، لأننا نعرف أنه لن يجرؤ أحد من المقربين إليها على القول إن هنا فتاة تعاني سكرات الموت تعذيباً لأن بيننا من يقدم مبررات التعذيب الذي قد ينتهي بالموت على إنقاذ الحياة أولاً! نلوك المبررات، ونختلق الأسباب حين يكون الأمر لا يعنينا مباشرة، أو يدخلنا دائرة الفضيحة، إنسانيتنا تنحصر بين حالتي البكاء والأسف الصامت حين تقع قضية من هذا العيار بهيمية، جحيمية ولكن ذلك ليس مقنعاً ولا معيداً لقيم الإنسانية في دواخلنا التي أخذت في التناقص تدريجياً كلما ألفنا حوادث كهذه، ومررنا عليها عبر أكثر من ناقل مرور الكرام! ناجحون نحن تماماً حين يتعلق الأمر بصلاحياتنا، والسلطة الذكورية داخل جدران البيت، ونعشق تجديد الفراش باحثين عن أدنى سبب، ولا يهم مطلقاً أين يذهب الناتج الحتمي للعلاقة الأساس؟ إيماناً منا أنه ما من مخلوق إلا ويخلق رزقه معه، وهذا حق فالله هو الرزاق، ولكن علامة تعجب كبيرة تملأ أفق وجودنا حين نحصر كل قناعاتنا في ما نشتهي! أتذكر قصة الرجل الذي أنجبت له امرأته عشرة أطفال، فضاق بهم ذرعاً ولم يعد يحتمل ضجيجهم وصراخهم وطلباتهم المتكررة وحتى حاجاتهم الإنسانية ففقد صبره لينجو بأنانيته هروباً من الواقع الذي عايشه وشارك في صنعه! أبلغت زوجته بالخبر والسبب فقالت في أسى: يا سبحان الله قتل الرجل الخطأ، الأبوة مهمة صعبة جداً، ومشروع لا بد من أن يفكر الذي يقدم عليه بكل جدية فبعضنا لا يملك من رسالة الأبوة وقيمتها وتبعاتها إلا اسمها فقط، وكم اعرف أبناء يحسبون آباءهم ميتين وهم أحياء لغياب طويل!"شرعاء"غادرت بفعل فاعل، والفاعل أب غائب عن الوعي أو مجرد من الإنسانية، ولنختار له ما نشاء وان شئنا أتينا بها جميعاً، ولعل في ما حدث أبعاداً كثيرة لخلل اجتماعي لا بد من أن يعالج. [email protected]