نشرت صحيفة"الحياة"بتاريخ 28 - 3 - 2008 مقالاً لسامي الماجد بعنوان"إرهاصات المولد المكذوبة"، أنكر فيها وكذب ما جاء في"الصحاح"و"السير"من إرهاصات مولد سيد الخلق محمد"صلى الله عليه وسلم"جملة وتفصيلاً، بل نعتها بالخزعبلات والشركيات، والغريب في الأمر أن يقوم أستاذ شريعة في جامعة عريقة في السعودية بالانتقاص من قدر سيد الخلق، في الوقت نفسه الذي ينادي العالم الإسلامي كله بنصرة النبي"عليه الصلاة والسلام"، رداً على من أساء إليه"صلى الله عليه وسلم". وما الضرر في الأخذ بحديث غريب، أو مرسل أو مرفوع إذا كان مقصد هذا الحديث يتضمن مصلحة مرسلة في هذا الأوان، فالمسلمون في أمس الحاجة للتعريف بحياته ومعجزاته بما يرقق القلوب، وبما يحبب بالمصطفى المختار، الذي أسلم الآلاف في الغرب بسبب قراءة سيرته العطرة، ومنها إرهاصات مولده، مثل محمد أسد، ورجاء جارودي وغيرهما الكثير، ثم إن معايير كاتب المقال في الأخذ بالأحاديث الصحيحة بتقربها إلى العقل والمنطق لا يعتد بها، فكم من الأحاديث الشريفة في"الصحاح"تتحدث عن الغيبيات وأمور الآخرة، لا يتقبلها عقل ولا منطق. جاء في المعاجم العربية: الإرهاص: الإثبات، ويقال أرهص الشيء، إذا أثبته وأسسه، ومنه إرهاص النبوة، والإرهاص: يعني البشارة، من قولهم بشره بالأمر. والبشرى والبشارة أوردتهما المصادر في الدلالات على الخيري والحسن والجمال والفرح، والبشارة مطلقاً تدل على الخير، والبشارة اصطلاحاً: كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، وقد وردت كلمة البشارة في القرآن نحو 54 مرة، لكن جاءت بمعانٍ مختلفة، قال تعالى: وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. المصادر التي كتبت وتحدثت عن الإرهاصات متنوعة، منها: القرآن الكريم، وكتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب الدلائل النبوية، وكتب أعلام النبوة، وكتب الشمائل، وكتب السيرة، وكتب التاريخ الإسلامي، فمصادر السيرة النبوية أشارت إلى الإرهاصات من خلال السرد التاريخي لأحداث السيرة، أو من خلال عناوين مخصصة عن الإرهاصات والبشارات، ومن ذلك:"السيرة النبوية"لابن هشام الذي هذب"سيرة ابن إسحاق"، و"الروض الأنف"للحافظ السهيلي، و"عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"لابن سيد الناس، و"زاد المعاد"لابن قيم الجوزية، و"السيرة النبوية"للذهبي، و"إمتاع الأسماع بما للنبي"صلى الله عليه وسلم"من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع"للمقريزي، و"المواهب اللدنية"للقسطلاني، و"سبل الهدى والرشاد"للصالحي... وكتب الإرهاصات جاءت في عناوين مختلفة مثل:"الدلائل النبوية"و"أعلام النبوة"، و"آيات النبوة"، و"نبوة محمد صلى الله عليه وسلم"، ومن ذلك"هواتف الجان وعجيب ما يحكي عن الكهان، ما يبشر بالنبي محمد، ويدل منه بواضح البرهان"للخرائطي، و"هواتف الجن"لابن أبي الدنيا، و"دلائل النبوة"للاصهباني، و"تثبيت دلائل النبوة"للقاضي عبدالجبار، و"دلائل النبوة"للبيهقي، و"أعلام النبوة"للماوردي، و"الخصائص الكبرى"للسيوطي. إن إرهاصات مولده بدأت منذ خلق الله تعالى الأكوان، ففي"مسند أحمد"جاء قوله"صلى الله عليه وسلم":"إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري دعوة إبراهيم وبشارة عيسى، ورؤيا أمي"، صححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي وصححه الألباني. أما الإرهاصات والبشارات الواردة عند أهل الكتاب في كتبهم فهي كثيرة، نذكر منها ما ورد عند اليهود، إذ نتبين أنهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وأنهم عندما كان المهاجرون والأنصار يرتقبون وصول رسول الله"صلى الله عليه وسلم"صاح بهم صائح اليهود"هذا حظكم"حين رآه من بعيد قادماً، وكان كثرة أسئلة اليهود واستفساراتهم التي وجهوها لرسول الله تنبئ عما عرفوا من خبره وأوصافه، من"التوراة"التي بين أيديهم. قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. جاءت إرهاصات النبي في"التوراة"في مواضع عدة، منها ما جاء في"سفر التثنية":"يقيم لك الرب نبياً في وسطك"، وذلك حين خاطب الله النبي موسى، وكلمة"في وسطك"تعني من آل إبراهيم الخليل، وجاء في"سفر التثنية"أيضاً بصيغة أخرى"أقم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثالاً وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، وأن يكون الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"... وهذه البشارة تنطبق على النبي، فإسماعيل كان أخاً لإسحاق ومعني"أجعل كلامي في فمه"، أي أمي لا يقرأ ولا يكتب، فألقنه بأن أضع كلامي في فمه"فيكلمهم بكل ما أوصيه به"، أي أن يكون أميناً على الوحي لا يزيد ولا ينقص. وقد أوردت الأناجيل"متى"3/14، و"مرقس"1/7، و"يوحنا"1/27 قول المسيح"عليه السلام"،"هو الذي يجيء بعدي ويكون أعظم مني"، وورد في"إنجيل يوحنا"61/7 النص التالي:"صدقوني من الخير لكم أن أذهب فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم المعزى، أما إذا ذهبت فسأرسله إليكم"، كما جاء في سفر"أشعيا":"جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران"، ففي سيناء وعلى جبل الطور تجلى تعالى لموسى"عليه السلام". وسعير، وهو جبل الشراة الذي كان يقيم فيه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى"عليه السلام"، وجبل فاران، هو جبل مكةالمكرمة، إذ ولد النبي محمد"صلى الله عليه وسلم"، والدليل الواضح في التوراة على أن جبل فاران هو جبل من جبال مكةالمكرمة، لأن إسماعيل لما فارق أباه الخليل"عليهما السلام"أقام في برية فاران، ويؤكد ذلك ما جاء في التوراة"وأقام في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر". لقد ترجم القسيس أوسكان الأرمني"سفر أشعيا"إلى اللغة الأرمينية، ورد فيه:"سبحوا لله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطنة على ظهره، واسمه أحمد"، ومن المعلوم أن خاتم النبوة بين كتفيه، كما جاء في"إنجيل برنابا"، ذكر اسم رسول الله"صلى الله عليه وسلم"صراحة"أحمد"13 مرة. من الأعلام النصارى، أو الذين كانوا على دين النصرانية في عهد رسول الله"صلى الله عليه وسلم"الذين ثبتت لهم إرهاصات محمد بن عبدالله بما عرفوا من البشائر وما سمعوا فآمنوا، بحيرة الراهب، وكان كبير الرهبان المنتشرين في الجزيرة العربية، الذين كانوا يترقبون ظهور الرسول المبشر به، وكان لقاء بحيرة بعم الرسول"صلى الله عليه وسلم"وفي صحبته ابن أخيه بالتجارة إلى بلاد الشام قد نصحه بالرجوع بابن أخيه، لأن اليهود سيعادونه وحذره منهم، وورقة بن نوفل كان أول من سمع بخبر مفاجأة الوحي لرسول الله"صلى الله عليه وسلم"بغار حراء، بعدما أخبر"صلى الله عليه وسلم"بذلك زوجته خديجة، إذ ذهبا إلى قريبها ورقة بن نوفل، وأخبره الرسول خبر الوحي الذي فاجأه بغار حراء، فصدقه وثبت قلبه، وقال له"وإن يدركني يومك حياً أنصرك نصراً مؤزراً". وسلمان الفارسي الذي سمع بقرب ظهور النبي المبشر به، وسأل عن موطنه، وجاء مهاجراً يسعى للقاء الرسول للإيمان، والتصديق برسالته، ونبوته، فعن ابن عباس"رضي الله عنهما"قال"حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه، وقال"كنت رجلاً من أهل أصبهان، والله ما أعلم أنه أصبح في الأرض أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه ذلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً يخرج من أرض مهاجرة وقراره ذات نخل بين حرتين". وعدي بن حاتم الطائي، والمقوقس وهو من عظماء الأقباط في عهد الرسول الكريم قد اعترف اعترافاً تاماً بنبوة رسول الله"صلى الله عليه وسلم"، إذ قال في إحدى رسائله:"بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبدالله، من المقوقس عظيم القبط، وقد علمت أن نبياً بقي وكنت أظنه يخرج بالشام". والنجاشي ملك الحبشة الذي كانت هجرتا أصحاب الرسول الأولى والثانية إلى أرضه، وجاءه وفد من قريش بهدايا ليطلب منه رد المهاجرين، فاستدعى منهم جعفر ابن عم الرسول"صلى الله عليه وسلم"، وسأله عما جاءهم به الرسول، فوصف جعفر ما كانوا عليه في الجاهلية وما دعاهم إليه بالإسلام، فقال النجاشي"هذا هو الحق"، ورد طلب مشركي قريش وهداياهم، ثم جمع البطارقة وأعلن فيهم تصديقه بما جاء به رسول الله"صلى الله عليه وسلم"وإيمانه برسالته، وقال لهم"مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجده في الإنجيل". * باحث في الشؤون الإسلامية.