الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الرسول الأمين, بشر به إخوانه المرسلون, صلى الله عليه وعليهم وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً. أما بعد: فقبل البيان ثَمَّ أمور ممهِّدة: الأول: أن الكتاب المقدس عند أهل الكتاب بعهديه القديم والجديد قد حوى حتى بعد تحريفه بشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن النصارى المكذبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون ربهم في كل صلاة أن يعجل بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم ينووه أو يعينوه بقولهم: "ليأت ملكوتك" والملكوت هو الإسلام, لأنه طريق الجنة ، فهلموا إلى الملكوت معاشر المصلين. الثاني: أن المسيح ابن مريم عليه السلام لم يدّع يومًا أنه المنتظر، بل كان ينفي ذلك عن نفسه. كما في يوحنا: "أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود ولكن الآن مملكتي ليست من هنا" (يوحنا 18: 36) فمملكته عليه الصلاة والسلام في الجنة، وليست المملكة المنتظرة في الدنيا. وكان كثير من معاصريه من الأحبار قد أدركوا أنه ليس المسيح المنتظر، مستدلين على ذلك بمعرفتهم بأصل المسيح ابن مريم ونسبه وقومه، بينما المنتظر حسب أسفارهم قادم غريب عنهم لا يعرفه اليهود "قال قوم من أهل أورشليم أليس هذا الذي يطلبون أن يقتلوه، وهاهو يتكلم جهارًا ولا يقولون له شيئًا، ألعل الرؤساء عرفوا يقينًا أن هذا هو المسيح حقًا، ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يوحنا 7: 25 27). إذن فالمسيح القادم غريب عن بني إسرائيل، وقد أكد صدق هذه العلامة عيسى عليه السلام، فقد قال في نفس السياق: "فنادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلاً تعرفونني أو تعرفون من أين أنا ومن نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه… فآمن به كثير من الجمع وقالوا ألعل المسيح متى جاء يعمل بآيات أكثر من هذه التي عملها هذا" (يوحنا 7: 25 31) وهكذا ذكر المسيح أنه رسول الله، وأنه ليس الذي ينتظرونه، فذاك لا يعرفونه، والسبب بالطبع أنه من بني إسماعيل. وفي موقف أكثر صراحة في نفيه عن نفسه أنه المسيح المنتظر لليهود واحتجاجه عليهم بأنه من نسل داود عليه السلام: "فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً ما تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موضعًا لقدميك. فإن كان داود ليدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟! فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة" (متى 22: 41 45) نعم فالأب لا يقول لابنه: سيدي. كذلك فهناك مانع في المسيح يحول بينه وبين أن تتحقق النبوءة فيه، فبحسب أسفارهم ولا أظنها تصح أنه من نسل الملك الفاسق يهويا قيم بن يوشيا (الأيام (1) 3: 14، 15) وقد حرّم الله تعالى حسب العهد القديم الملك على ذرية ذلك الملك الفاسق "قال الرب عن يهويا قيم ملك يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود" (إرميا 36: 30)، وقد تنبه نساخ إنجيل متى لهذه العلة المانعة فأسقطوا اسم هذا الجد من نسب المسيح بين يوشيا وحفيده يكنيا، ولكن بعد هذا التحريف المتعمد لم يمكنهم أن يحرفوا سفر الأيام لأن اليهود سيحولون بينهم وبين مأربهم ذلك فليس بينهم تقاطع مصالح في هذه النقطة وليس لليهود مصلحة بل ربما شمتوا بهم من خلالها. وبعد التأمل في سيرة المسيح عليه السلام وأقواله وأفعاله وأحواله نصل إلى امتناع كونه المسيح المنتظر والملك القادم المذكور في بشارات الكتاب المقدس، فالمسيح لم يملك يومًا واحدًا على بني إسرائيل بل كان يهرب من بطشهم وظلمهم، أما النبي المنتظر فهو يسحق ملوك وشعوب زمانه كما أخبر به يعقوب عليه السلام "يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تكوين 49: 10) وكما قال داود عليه السلام: "شعوب تحتك يسقطون" (مزمور 45: 5)( هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم، د. السقار ص27 35.). والمسيح كان يدفع الجزية للرومان "خذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17: 24 27) فأين حال دافع الجزية لهم من الملك الذي يجتثهم لغياهب أوروبا، ويسقط عاصمتهم القسطنطينية، ويحيل كنيستهم أياصوفيا من رمز ووكر لمسبة الله تعالى بالتثليث والولادة, إلى مسجد يذكر فيه اسمه ويعظم فيه دينه وترفع فيه شعائره؟! والمسيح عليه السلام كان يرفض قسمة الميراث بين متخاصمين "من أقامني عليك قاضيًا أو مقسمًا" (لوقا 12: 14) أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يحكم في الرقاب والدماء والأموال والدول. أما تحويل تلك النبوءات لعودة المسيح آخر الزمان فهذا منقوض بنصوص العهدين "ويملك على بيت يعقوب" (لوقا 1: 33) فملكه خاص باليهود وليس عام بالشعوب أما الآخر "يكون له خضوع شعوب" (تكوين 49: 10) فأين ملك الشعوب من ملك اليهود؟! إن بني إسرائيل قد أغضبوا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته، فنقل الخيرية عنهم لمن يستحقها ممن يعظمه ويحبه محبة حقيقية لا مُدّعاة "لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد" (مزمور 74: 1). أما استدلالهم بحديث السامرية لما سألته عن المسيا القادم "قال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو" (يوحنا 4: 25، 26) فهنا قد وقع تحريف، دليل ذلك أن التلاميذ لم يسمعوا حديثه مع السامرية فكيف يقوّلونه ما لم يسمعوا؟! كما أن هذا ليس معهودًا عنه، بل المعهود عنه عكس ذلك فقد كان ينفي مرارًا سواءً مع التلاميذ أو الكهنة! أضف إلى ذينك السببين أن المرأة لم تؤمن به أنه المنتظر، ولو قال لها لآمنت به، فهي لم تزد على أن ذهبت للمدينة وأخبرتهم أن "إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح" (يوحنا 4: 28، 29)، أتراها تكتم خبره لو كان قد أخبرها أنه المنتظر المخلص الموعود؟! لقد صدق بولتمان في كتابه (يسوع) حين قال: "إن يسوع لم يعتبر نفسه المسيا" وقد وافقه على قوله هذا كثير من المعاصرين كما نقل عنهمالأسقف برنارد بارتمان أنهم قالوا: "إن يسوع لم يعتبر نفسه المسيا بل إن التلاميذ هم الذين أعطوه هذا اللقب بعد موته (المزعوم) وقيامته من الأموات الأمر الذي كان يرفضه بشدة أثناء حياته على الأرض" وكذلك قال شارل جنيبر: "والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين هي: أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه أنه ابن الله"(المسيحية نشأتها وتطورها، شارل جنيبر، ص50، تاريخ الفكر الفلسفي، الدكتور القس حنا جرجس (1/ 280 282). هذا و يرى كثير من المحققين أن المسيح والمسيا شخصان مختلفان، وأن المسيح هو الممهد والمبشر للمسيا، فالأول (المسيح) عيسى عليه السلام، والثاني (المسيا) محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يراهما شخصية واحدة والخطب يسير دام أنها مسألة اصطلاحية، وإلا فالمضمون الحقيقي هو أن المسيح ابن مريم مبشر بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم سواء سميناه المسيا أو المسيح. وإن كان تحقيق المصطلحات أولى بلا شك. ثالثاً: أن تلاميذ المسيح لم يفهموا نبوءاته حسب نقل العهد الجديد عنهم . ففي أعمال الرسل المنسوب إلى لوقا نُسب إلى بطرس أن المسيح هو تأويل نبوءة داود "قال الرب ربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك، فليعلم يقينًا جميع بني إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًا ومسيحًا" (أعمال 2: 29 37) ودليل خطأ هذا الربط نفي المسيح عن نفسه ذلك في رده على الفريسيين "فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه" (متى 22: 41 46) فالقادم ليس من ذرية داود أصلاً، فالأب لا يقول لابنه سيدي ولا ربي. والأناجيل تذكر تذمر المسيح عليه السلام من أن تلامذته لم يفهموا كلامه الواضح البسيط، فكيف بالنبوءات وتأويلها "وتحرزوا من خمير الفريسين وخمر هيرودس. ففكروا قائلين بعضهم لبعض ليس عندنا خبز. فعلم يسوع وقال لهم لماذا تفكرون أن ليس عندكم خبز ألا تشعرون بعد ولا تفهمون. أحتى الآن قلوبكم غليظة. ألكم أعين ولا تبصرون ولكم آذان ولا تسمعون ولا تذكرون. حين كسرت الأرغفة الخمسة للخمسة الآلاف كم قُفّة مملوَّة كسرًا رفعتم، فقالوا اثنتي عشرة.. فقال لهم كيف لا تفهمون" (مرقس 8: 15 21) كذلك تكرر الأمر (يوحنا 6: 60) (مرقس 9: 21، 32). بل قد امتد سوء الفهم حتى لكبير معلمي اليهود نيقوديموس الذي لم يفهم معنى الولادة الروحية "أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا" (يوحنا 3: 3 10) فلئن كان هذا حال معلم إسرائيل فماذا عساه يكون حال متى الذي كان عشارًا، أو يوحنا وبطرس وهما صيادا سمك، ويصفهما سفر الأعمال بأنهما "إنسانان عديما العلم وعاميان" (أعمال 4 13) وعلى هذا فما ينسب لهم من لي أعناق البشارات للمسيح غير مسلّم. قال البروفسور مومري: "كان حواريوه دائمًا لا يدركون أعماله، أيريدون أن ينزل عليهم نارًا من السماء يريدونه أن ينصب نفسه ملكًا على اليهود، يريدون أن يجلسوا على يمينه وعلى شماله في مملكته، يريدون أن يريهم الله، أن يجعلهم يرون الله بأعينهم المجردة، يريدونه أن يفعل وأن يفعل لهم أي شيء يتعارض مع رسالته العظيمة" ونسجل هنا عدم موافقتنا لكلام البروفسور فقد تضمن إساءة ظن بهم ومبالغة في رفع سقف مطالبهم أو رغباتهم لأنهم على كل حال أخلص الناس للمسيح عليه السلام، وأعلم الناس بدينه ورسالته وأصلح من كانوا على ظهرها يومئذ، وروايات العهد الجديد مطعون فيها. والثابت أن الحواريين قد طلبوا من المسيح عليه السلام طلباً غريباً وهو إنزال مائدة من السماء، بل طلبوها بأسلوب ينم عن جهل لا علم ورسوخ في العلم والإيمان: "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كتتم مؤمنين . قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين . قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين . قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" [المائدة: 112 115]، فذكروا علل الطلب الغريب والعلل الأغرب وهي: 1 الأكل. 2 اطمئنان القلب لطروء الشك عليه، وهو ما صرحوا به بالسؤال عن قدرة الله على فعل ذلك. 3 الاطمئنان لصحة رسالته من عند الله، وهذا مطعن آخر في الإيمان. 4 أن يكونوا شاهدين عليها بين الناس. وشتان ما بين حال هؤلاء وبين حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان الإيمان قد تجذر في قلوبهم ورسخ العلم في أفئدتهم؛ حتى أصبح الإيمان بالله ورسوله في قلوبهم كالجبال الرواسي، وكانوا أشد الناس تعظيمًا لله تعالى وخشية له وعلمًا به وبصفاته وأفعاله، وإجلالاً ومهابة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يسألونه هيبة وإجلالاً إلا فيما ندر، ويفرحون بالقادم من البادية يسأل عن الدين فيستمعون لجواب نبيهم ويحفظونه وينقلونه، وبعد ذلك فهم أكثر بذلاً لنفوسهم في ذات الله تعالى وزجًّا بها في غياهب الموت فداءً لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنهم، وكم عضتهم السيوف وقصفتهم الرماح وألهبتهم الأسهم فأضحوا صرعى دونه، وكانوا أجود بأموالهم وربما خرج أحدهم من ماله كله في سبيل الله تعالى، وكانوا أعلم الناس بالله وبرسوله وبدينه وشرعه، فهم أفقه الناس وأعمقهم علمًا وأبرهم قلوبًا وأقلهم تكلفًا، فلا كان ولا يكون في الناس بعد الأنبياء مثلهم. بينما تحدثنا الأسفار عن هروب الحواريين لما أراد اليهود قتل نبيهم، ثم تبديلهم شريعته كما في مجمعهم الأول في أورشليم حتى نقضوا ناموس موسى وبدلوا التوراة والإنجيل إن صح ذلك عنهم ولا أظنه بينما عبد أصحاب موسى عليه السلام العجل بعدما رأوا للتو آيات من آيات الله تعالى وآذوا نبيهم "لا تكونوا كالذين آذوا موسى" [الأحزاب: 69]، ثم رفضوا طاعته جبنًا وهلعًا من العماليق، وقالوا بسوء أدب مع الله جل جلاله: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون" [المائدة: 24]، وليس كلهم كذلك بل منهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وآمنوا بموسى حق الإيمان وعملوا بالتوراة، كذلك أصحاب المسيح عليه السلام من الحواريين، فلا نبخسهم حقهم بل قد أثنى الله عليهم، وأمر المؤمنين أن يتخذوهم مثلاً فقال: "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحوارييم من أنصاري إلى الله قا الحواريون نحن أنصار الله" [الصف: 14]. رابعاً: أن الذي قال عن نفسه أنه النبي المنتظر هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صدّقه الله بآيات بينات ومعجزات ظاهرات باهرات. وفي القرآن الكريم بيان أن الله تعالى قد أخذ العهد على الأنبياء أن يؤمنوا به، وأن ينصروه لو بعث في زمانهم ويتبعونه فقال جل ذكره: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" [آل عمران: 81]. ومنهم إبراهيم الخليل عليه السلام الذي قال: "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم" [البقرة: 129]. وكان موسى عليه السلام مطالبًا باتباعه لو بعث وهو حي، فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي". رواه أحمد والدارمي. ومنهم المسيح ابن مريم عليه السلام "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" [الصف: 6]. وقد أكّد الله تعالى وجود البشارات بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة: كما في قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" [الأعراف: 157]. وفي تلك الكتب ذِكْرُ أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وأمته: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً" [الفتح: 225]. بل ويذكر الله تعالى أن أهل الكتاب يعرفون نبيه صلى الله عليه وسلم بصفاته وعلاماته كما يعرفون أبناءهم "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" [الأنعام: 20]، وقد اعترف بذلك بعض كبار أحبار اليهود وسادتهم كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه وآخرين(وقد بُشِّرَ من أسلم من اليهود والنصارى بأنهم سيؤتون أجرهم مرتين، وهذه البشارة خاصة بمن أسلم من أهل الكتاب) ولا شك أن التوراة التي بين أيدينا قد طالتها يد التحريف بشكل متدرج، فكلما ذهب جيل من الأحبار خلفهم جيل آخر فمدّوا أيديهم لطمس نور البشارات، وشيئًا فشيئًا صارت حالها مثلما رأيناه فيما سبق، ففي القرن السابع الميلادي كشف كعب الأحبار وهو من كبار يهود زمانه بعدما أسلم عدة روايات توراتية لا تحتمل التأويل في البشارة بنبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، وعموم رسالته للأمم، وذكر منها: "أحمد عندي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، يعفو ويغفر، مولده بكاء (بكة) وهجرته طابا (طيبة وهي المدينة) وملكه الشام، وأمته الحمادون، يحمدون الله على كل نجد، ويسبحونه في كل منزلة، ويوضئون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، وهم رعاة الشمس، ومؤذنهم في جو السماء، وصفّهم في القتال وصفّهم في الصلاة سواء، رهبان بالليل، أسد بالنهار، ولهم دوي كدوي النحل، يصلون الصلاة حيث ما أدركتهم" هداية الحيارى، ابن القيم، ص193، الجواب الصحيح، ابن تيمية (5/ 282، 283)، تاريخ الأمم والملوك، الإمام الطبري (4/ 93)، دلائل النبوة، الحافظ البيهقي (1/ 284).. وقال كعب الأحبار كذلك: مكتوب في التوراة "محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام" وهذا النص كالشمس، لذلك فاليهود كانوا يعلمون قرب زمان بعثته وبلده ومهاجره، لذا فقد نزلت قبائل منهم طيبة لعلمهم بأنها دار هجرته انتظارًا منهم لمبعثه، وكانوا يتواصون فيما بينهم باتباعه ونصرته حين يخرج كما فعل ابن الهيبان، ولكن لما بعث حسده جمهورهم، وقد ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) (ص39، 40) بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أبيه مالك بن سنان رضي الله عنه قال: "جئت بني عبد الأشهل يومًا لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول: "أظل خروج نبي يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به ما صفته؟ فقال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، وهذا البلد مهاجره، قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلاً منا يقول: هذا وحده يقوله؟ كل يهود يثرب تقول هذا. قال: فخرجت حتى جئت يهود بني قريظة، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يخرج إلا بخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره. قال أبو سعيد: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلمت يهود كلها، إنما هم لهم تبع". لذلك فقد سارع عرب المدينة للإسلام ونصرة نبيه لما عندهم من بشارات من جيرانهم اليهود، كذلك فقد منعت اليهود ملك اليمن تبع من تخريج المدينة إذ جاءه كبيرهم شموال اليهودي وأخبره أنها مهاجر نبي من بني إسماعيل، ومولده بمكة، واسمه أحمد. فامتنع تُبَّع عما كان أزمعه. سيرة ابن إسحاق، ص29 33. والآن إلى ذكر شيء من بشارات العهد الجديد بالنبي صلى الله عليه وسلم. بما أن النصارى لا يعتمدون إنجيل برنابا، وهو الإنجيل الأقرب للحق من أناجيلهم المعتمدة، فلن نذكر بشاراته، مع أنه قد أورد اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم صريحًا في أكثر من آية وبشر به وشهد له بالرسالة وعمومها للأمم. البشارة الأولى: "وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة"، "وعلى الأرض إسلام, وللناس أحمد": وهذه البشارة وردت في إنجيل لوقا "ظهر جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لوقا 2: 14). وهي البشارة التي قادت القس الكاثوليكي والعالم اللاهوتي وخبير اللغات عبد الأحد داود إلى الإسلام. وهذه البشارة كانت ليلة ميلاد المسيح عليه السلام، وقد تبدت الملائكة للرعاة وزفّت لهم ولأهل المعمورة هذه البشارة، فما مغزاها؟ ومن المعني بها يا تُرى؟ لقد قدّم عبد الأحد داود بحثًا لغويًا قيمًا أثبت فيه بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الآية من إنجيل لوقا إنما هي بشارة بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام(والعلاقة بين هذا التوقيت والبشارة أنه ميلاد المبشر بالرسول الخاتم)، وقال: "إن هؤلاء الملائكة لم ينشدوا هذا النشيد باللغة العبرية ولا اليونانية، وإلا لما فهمها الرعاة الذين سمعوا النشيد؛ لأن الرعاة لم يكونوا يفهموا إلا السريانية التي هي لغتهم، وإذا كان هؤلاء الأملاك نطقوا هذه الكلمات بالسريانية فما هي كلمات الأنشودة بهذه اللغة؟ وما هي ترجمتها الحقيقية؟ وبخاصة السلام، المسرة)؟" الإنجيل والصليب، عبد الأحد داود، ص33 55، وانظر: محمد في الكتاب المقدس، عبد الأحد داود، ص147 165، البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل، د. أحمد السقا (2/ 370 372)، هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم، د. منقذ السقار، ص112 114. وهنا يؤكد الباحث أن أصل هاتين الكلمتين بالسريانية التي تكلم بها الملائكة هو: (إيرينا) و(يودكيا). ويؤكد أن ترجمة هاتين الكلمتين في الإنجيل خطأ، ودليل ذلك أن الترجمة قد اختلفت في الألفاظ والمعاني تبعًا لاختلاف طبعات الأناجيل ودور النشر، وعلى سبيل المثال ففي الطبعة المتداولة بين أيدينا نجد أن لفظ (إيرينا) ترجمت ب(السلام) ولفظ (يودكيا) ترجمته ب(المسرة) ولكن الطبعة الصادرة عن دار النشر (بيبل سوسايتي) ترجمت فيها هاتين اللفظتين هكذا (إيرينا) (سلامة) و(يودكيا) (حسن الرضا) ويستدل الباحث على خطأ الترجمتين معًا، بل وعلى سوء النيّة وتعمد التضليل بالخطأ في ذلك، حتى تضيع الحقيقة المرادة من هذه الكلمات. وقبل أن يورد الترجمة الصحيحة لهاتين اللفظتين يورد نقضين على الترجمة المتداولة لهما، فهو يتساءل: ما معنى أن يكون على الأرض السلام أو سلامة؟ وأي سلام شهدته الأرض والجنس البشري؟! وإنما الكائنات كلها في حرب مستمرة ودائبة مع بعضها البعض! ثم أي سلام شهد هذا الكوكب منذ ظهر المسيح؟ فالمنازعات منذ ظهوره زادت، والاضطهادات تفاقمت، وتاريخ البشر لم يشهده من الفظائع مثلما وقع على أتباع المسيح في أثناء الاضطهادات التي وقعت على يد نيرون وغيره، بل إن الفظائع زادت وتفاقمت على يد الكنيسة نفسها ضد أصحاب الديانات الأخرى، وضد أتباعها ممن يخالفون تعاليمها، وما عهد محاكم التفتيش عنا ببعيد، بل إن كان في الدنيا شيء قد اكتسب أكثر شهرة في اقتراف المظالم، وإيقاد نيران العداوة فلا شك أنها الكنيسة. ثم كيف يكون السلام على الأرض بمجيء المسيح، والمسيح نفسه ينفي هذا ويقول: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (متى 11: 24)، وقد وقع السيف على أتباعه ثم على أعدائهم اليهود "جئت لألقي نارًا على الأرض، أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض، كلا أقول لكم بل انقسامًا" (لوقا 12: 49)، إذن فمن المحال أن تقصد الملائكة أن الأرض عليها السلام بمعنى المصالحة والمسالمة فإن ذلك منقوض بنص كلام المسيح نفسه، ومن واقع حياة البشرية وسيرة الكنيسة الدموية الوحشية. وانظر: النصرانية، د. محمود مزروعة، ص82 84. ثم يتساءل الباحث: ما معنى أن يكون الناس بالمسرة أو حسن الرضا؟ والناس مطبوعون على الطموح، وأطماعهم لا تحد، والجشع في الناس يزيد ولا ينقص! ثم بعد ذلك يوضح الباحث الترجمة الصحيحة للكلمتين (إيرينا ويودكيا) وأن أصدق الترجمات هي ترجمتهما ب(الإسلام، أحمد). وعلى هذا فالصحيح أن الآية الإنجيلية: "الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد". والترجمة الصحيحة لكلمة (إيرينا)( وتكتب كذلك (إيريني) اليونانية في العبرانية (شالوم) وهي في العربية (الإسلام) و(السلام). أما كلمة (يودكيا) اليونانية فيصح أن تترجم للعبرانية (حمدا) أو (محماد) المشتق من الفعل (حمد) ومعناه: المرغوب فيه جدًا، أو المحبوب أو الرائع، وكلها معان موجودة في كلمة (محمد) أو (أحمد) ومثل هذا التقارب يدل على أن لهما أساسًا مشتركًا كما هو الحال في كثير من كلمات اللغات السامية. فصلى الله وسلم على من بعثه الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.