كل شيء مرتب في غير موضعه، كل شيء مبعثر في موقعه، العادات أصبحت تقال، التقاليد حصرت في مقال، المبادئ شبه معدومة، القيم باتت معدودة، الحقائق غير معلومة، هذه هي الحال السائدة، والمآل البائد، في مجتمع كان قائداً. نعم... أصبحت هذه الحال، فالمتأمل بعمق ثاقب وإحساس صادق، يرى تلك التغيرات العجيبة والتحولات المذهلة في هذا البناء الاجتماعي العريق، والكيان الإنساني الرفيع، إذ نجد في الماضي القريب كان للعادات الحسنة والتقاليد الحميدة والمبادئ الراسخة والقيم النبيلة دور كبير في تشكيل نمط الحياة الاجتماعية، وكانت من سماته الواضحة وخصاله المميزة، وكان الأفراد في مجتمعنا يتنافسون في تطبيق ذلك، شريطة أن تكون مستمدة من ديننا الحنيف، وكانوا يحثون بعضهم البعض على عدم إهمالها أو التهاون والتقصير في أدائها والعمل بها، ويتعاونون في إرجاع من حاد أو ضل عن طريقها. أما اليوم"فحدث بحرج"، أصبحت هذه الأنماط تتداول في الخطابات الكلامية، وتلتصق بالشعارات الرنانة، وتحولت إلى مادة دسمة وثمينة لدارسي التاريخ والمهتمين بالآثار والحضارات الإنسانية القديمة، وأصبح البعض يسترجعون قيمتها العظيمة وفوائدها الجليلة، بالوقوف على أطلالها البعيدة لما يرونه من تغير في أحوال الأفراد وتغير نمط سير وتيرة المجتمعات. ولمحة سريعة، بعبارات بسيطة لبعض هذه التحولات في نمط عيشنا ومسيرة حياتنا، وعلى سبيل ضرب الأمثال لا للحصر، فقد اختلطت الأدوار في المنازل، وتغير المفهوم السامي للعلاقات الأسرية، نرى الحروب الداخلية تطحن أفرادها، فنجد الضحايا يتساقطون على أيدي من هم يفترض ان يقوموا بحمايتهم، وأصبحت الأركان الثابتة في هذا النسق الاجتماعي توشك على الانهيار، ونجد خلال البحث عن الدار تجاهل ذكر الجار، وتعددت النوائب من دون ظهور الصديق الصادق، وأصبح المقياس هو الجيب الملآن، وإقصاء المقيس الحقيقي لذلك الإنسان من خلال ما يحمله في داخله من فكر وعلم وثقافة وخصال حميدة، وغياب قيمة الصدق، وظهور الألوان المتعددة للكذب، والتي من أشهرها"الكذبة البيضاء"، وغياب التآلف بين أبناء المجتمع الواحد، وأصبحت المصالح الشخصية والمنفعة المادية التي ستتحقق هما الرابط والعنوان الرئيس في إقامة العلاقات مع الآخرين، وترى التاجر الذي ألغى من مفهومه جميع المبادئ والقوانين للتجارة، وانغمس في جشعه وهدفه هو الربح الجم، بغض النظر عن ذلك المستهلك الذي أصبح يئن تحت وطأة الغلاء، ونجد المسؤول الذي وضع الأمانة التي حملها في منصبه في قائمة أرشيفه، وأخذ يتلاعب بالمسؤولية التي حملها لخدمة مصالحه الشخصية، ونجد الموظف الذي أصبح يتقاضى أجره ممن يخدمهم في المقر الذي يعمل به، على أنها هدية، وعندما يُدان بالرشوة تثور ثائرته وتتعالى أصواته ويحاجك، وبكل فخر يسمعك: ألا أقبل الهدية؟! والكثير الكثير من أحوالنا لا يتسع المجال لذكرها أو التطرق لها، ما يندى له الجبين ويشيب له رأس الجنين. إن ما سبق ليس طمساً لمواكبة التطور أو الوقوف عن التقدم في شتى مناحي الحياة، بل من الواجب علينا منافسة الأمم، ولكن برسالتنا الحميدة وبصمتنا الفريدة، والأخذ بكل ما من شأنه أن يخدم مجتمعنا مع ما يتوافق مع ديننا، ولأن إصلاح مجتمعنا من أولوياته إصلاح أنفسنا كأفراد، وأن نغير أوضاعنا إلى أفضل المستويات، والنهوض الى أرقى الدرجات، وذلك يبدأ بتغيير أنفسنا من الداخل، قال تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم صدق الله العظيم. [email protected]