نتحدث عن العدل، وندعي العمل بميزانه، ومع ذلك لا نتورع في دواخلنا عن ممارسة الظلم بالاعتداء على حقوق غيرنا، وننسى بهذا الظلم أننا إنما نظلم أنفسنا في ميزان العدل والأخلاق... نتظاهر بصفاء ونقاء قلوبنا بينما يملؤها الحقد، ندعو لأهمية الحوار مع الآخر، وحقه في الرأي، ولكننا عندما نجد أن الرأي الآخر يتعارض مع مصلحتنا فإننا نتعرض له بكل أساليب القمع حتى نلغي ذلك الرأي، وإذا عجزنا لجأنا إلى توجيه سيل عارم من الشتائم والتجريح بإلصاق كل صفة بصاحب الرأي المرفوض، فنصادر بذلك حقه في إبداء رأيه! ثم نستحث من يقع تحت مسؤوليتنا على قول الصدق، وتحريه بدقة، مدعين"أننا"لا "نكذب"! نجزم باحترامنا لحقوق الإنسانية وأنها من الضروريات الأساسية، وأنها حق لكل فرد، ولا نطبق ما ندعيه بحذافيره، وقد تطبق على"الحيوان". نؤمن بالتكافل الاجتماعي لكل فرد في المجتمع، ونطالب به على جميع الأصعدة، ونحن نردد في أعماقنا عبارة"كل واحد وحظه"! نؤمن بالحرية في التعبير عما يجول في خواطرنا، ولكننا في حقيقة الأمر نقيم الأسوار الشائكة والحواجز العالية، ثم نضع تلك الحرية داخلها لتصبح سجينة داخل ما نعتبرها قوانين يجب مراعاتها. في مجالس الأغنياء نتبارى في الحديث عن القضاء على الفقر، بينما يجول بخواطرنا أنه من الضروري موت جميع الفقراء ليستريح أعضاء تلك المجالس المترفة من رؤية هؤلاء الفقراء. ندعي الشرف الرفيع والبعد عن الرذيلة، ومن دواخلنا نتلذذ بما نفعله في الخفاء مع أنفسنا في مواطن الانحلال وأماكن الفساد، نتلفظ مع الآخرين بأجمل العبارات وأعذب الألفاظ، وفي دواخلنا نصب عليهم أقبح الشتائم، وأقذر الصفات، ونطالب في مقابلاتنا الإعلامية بسن اشد العقوبات على جريمة الرشوة، وعند انتهاء تلك المقابلة نحاول تقديم أجزل الرشاوى في عبارات مغلفة لمن قابلنا من أجل إظهار الصورة في أبهى حلة. نرحب بالشفافية والوضوح في كل الأمور، وعند ظهورنا مخالفًا لما نطمح إليه، نلصق بذلك الشخص بأنه"لا يفقه شيئاً"، ونصدر القرارات بضرورة تيسير الأمور والابتعاد عن الروتين المعقد، ونشكل اللجان المتعددة التي تنبثق منها لجان فرعية، ثم تتعدد اللجان، وتتصادم الآراء ويكثر الخلاف، ونخرج من ذلك بقوانين أشد صرامة من سابقاتها، وننادي في ذلك المحفل الوظيفي بضرورة تكافؤ الفرص، والمقومات الذاتية هي الأساس، وجميع الحضور أبناء عمومه! نصرخ بأعلى أصواتنا في محاضراتنا الأدبية بالتمسك بالهوية الثقافية، وجميع الصرخات بعبارات غربية ودخيلة على مجتمعنا، ونقرر في اجتماعاتنا ضرورة توفير فرص العمل لأبناء الوطن، وبعد انقضاء الاجتماع نتسارع إلى المطار لاستقبال المجموعات المقبلة من الموظفين الأجانب الذين تم التعاقد معهم للعمل. هذه صورة مبسطة لما يعيشه البعض منا في حياتنا اليومية التي تمر لحظاتها متناقضة ومتعددة، التي لا يكاد يتسنى حصر جزء منها، والكثير، الكثير من الأمور التي نظهرها سواء أكان ذلك قولاً أو فعلاً، ولكننا في حقيقة الأمر قد نضمر في دواخلنا النقيض لها تماماً! جميلُ لو حاولنا واجتهدنا تعميق السلوك الإنساني السوي، وأن نغرس في وجداننا الإنساني القيم الإسلامية السامية، ونؤصّل في الفؤاد التقاليد العربية النبيلة، ونحفر في الكيان العادات المجتمعية الأصيلة، والأجمل من ذلك... أن نخرجها ونظهرها في سلوكنا وتصرفاتنا مع الآخرين. عادل علي الغامدي [email protected]