في كل ثقافات الدنيا، الشخصية الأكثر جدارة بالازدراء هي شخصية الثري الجشع ،الذي تضيق مساحة الرحمة في قلبه بقدر ما تزداد مساحة الأموال في خزائنه. التراث الانساني في كل مكان مليء بالحكايات والاساطير حول هذه الشخصية والنهايات المأسوية التي تحدث لها. والرسالة البسيطة التي ما أنفك الانسان عن ترديدها عبر الحكايات والاساطير وأشكال وألوان أخرى من الادب، هي أن على الانسان ألا يغتر بما يملك. وأن قيمة الاشياء الحقيقية هي بقدر نفعها للإنسان وبنوعية المشاعر التي تجلبها. الأموال ليست مرادفاً للسعادة، وإن كانت طريقاً سريعاً يوصل إليها. فالثراء بمفهومه المادي قد يكون مكافأة وبشارة خير، وقد يكون إبتلاءً، وقد يكون مجرد امتحان يكشف للإنسان معدنه الحقيقي. تماماً كالأموال هناك نِعم كثيرة تصيب الانسان، وإن كانت أقل وضوحاً، وينطبق عليها ما ينطبق على الأموال والثراء المادي، من حيث أن طريقة توظيفها والتعامل معها يحدد هل هي نعمة أم نقمة. ما فائدة الذكاء إذا كان يجلب التعاسة ومشاعر الغربة؟ وهل يتوجب على الانسان أن يفرح به؟ هناك بالفعل من يتعامل مع الذكاء، كما يتعامل الثري الجشع مع أمواله، يستخدمها كسفينة يبحر بها بعيداً عن الآخرين، مستبدلاً بمشاعر الحب والتعاطف والمودة مشاعر الخوف والقلق. وأهم وأخطر من ذلك أن هناك من يتوهم أن أعظم نعمة تصيب الإنسان على الاطلاق وهي نعمة الايمان الحقيقي بالله، وتلك الطمأنينة الابدية التي تجلبها معها ولا يعدلها شيء آخر، هي أيضاً مركب معد للإبحار بعيداً عن الآخرين. لا يختلف اثنان على أن الثري الجشع الذي يحتقر الفقراء ويزدريهم لمجرد أنهم معدمون ولا يملكون ما يملك، هو شخصية بغيضة، لا أحد يود الاقتراب منها، ولا أحد يقبل أن يوصف بها. فالثري هنا ليس ثرياً حقيقياً، هو مجرد عبد نذر حياته سخرة للأموال، وتخلى عن كل شيء آخر. ولكن الاختلاف يحضر عندما نتعامل مع نِعم أخرى أقل وضوحاً من نعمة الثراء المادي. فالمتذاكي أو من يعتقد أنه أذكى من الآخرين، لا يجرم بنفس الطريقة التي يجرم بها التاجر الجشع، عندما يكون هدفه الوحيد هو تأكيد الفوارق وإثبات التفوق مهما كلف الأمر. وبالدرجة نفسها أيضاً فإن هناك تعاطفاً كبيراً مع من يتوهم أنه ألقى مرساته على شاطئ الايمان الحقيقي، فيما هو لا يزال يمارس سلوكاً متعجرفاً ومتكبراً مع الآخرين الذين يعتقد أنهم أقل حظاً منه. ليست هناك حكايات وأساطير في التراث الشعبي تكشف زيف إيمانه وأنه في وهم كبير. لأن الايمان الحقيقي يوصل للطمأنينة والسعادة على جسور من الرحمة والمودة، ويشيع ثقافة الحب والسلام، هو شلالات من الاخاء والتسامح التي يزداد تدفقها مع العطاء والتواصل، وتختنق عندما تعترضها الحواجز والسدود. هو كالمشاعر الجميلة التي تتضاعف بالقسمة وتزداد بالعطاء. إذا لم أكن مخطئاً فإن الايمان الحقيقي لا يدفع الانسان للشعور بالغضب إذا رأى من هو أقل حظاً، بل يفجر في داخله مشاعر العطف والرحمة، ويتيح له الفرصة للكشف عن معدنه الحقيقي. فمقياس الثراء الحقيقي مادياً كان أم فكرياً أم روحياً هو بقدر ما يتيحه لنا من العطاء، لا بما يصنعه لنا من الحواجز والسدود. [email protected]