تداعيات الأزمة المالية التي تعصف بالأسواق العالمية قد تصيب بشظاياها مقتلاً في بطولة العالم لسباقات فورمولا واحد، نظراً للانكماش الاقتصادي والمتوقع وتباطؤ النمو.وبعدما بدأت الساحة الآسيوية تسحب البساط، ولأسباب شتى، من تحت أقدام القارة العجوز في مجال رواج الفورمولا واحد وازدهارها، يبدو أن مستجدات الأسواق المالية والهلع الذي أصاب العاملين فيها ستكبح جماح هذه الفورة. عموماً الصلة وثيقة بين عالم الفورمولا واحد وأسواق المال والمستثمرين، علماً بأن أصواتاً تطالب منذ سنوات ب"التعقّل"في الإنفاق خشية الضمور والتراجع تدريجياً، على رغم عائدات فلكية تسجلّها فرق وحلبات وخسائر بملايين الدولارات تلحق بجهات مماثلة. وجاء حديث المدير التنفيذي لفريق وليامس- تويوتا أدام بار لهيئة الإذاعة البريطانية"بي بي سي"أخيراً، ليسلّط الضوء مجدداً على المشكلة، إذ كشف أن الفرق"الصغيرة"التي تملكها شركات غير مصنعة مثل فورس إنديا وريد بول رايسنيغ، ليست وحدها المتأثرة بانهيار بورصات عالمية،"فهناك احتمال جدي بأن ينسحب فريق أو أكثر، وقد تكون هذه من الفرق المصنعة"أي فيراري الإيطالي ورينو الفرنسي وبي أم دبليو الألماني وتويوتا وهوندا اليابانيين، وهي تشكل نصف عدد الفرق العشرة المشاركة في البطولة، علماً بأن أسهم تويوتا"تدحرجت"بنسبة فاقت ال50 في المئة منذ مطلع 2008. وسبق أن حذّر رئيس الاتحاد الدولي لرياضة السيارات"فيا"البريطاني ماكس موزلي من أن سباقات فورمولا واحد ستعيش لسنة إضافية قبل أن يبدأ انهيارها،"إلا في حال بدأ العمل بخفض التكاليف"، لافتاً الى أن"مستقبل الفئة الأولى في خطر بسبب ارتفاع كلفة إدارة أي فريق"، ضارباً المثل بفريق سوبر آغوري الياباني الذي أُجبر على الانسحاب من بطولة الموسم الحالي بعدما دخلها من دون أن يتمكن من تأمين الدعم المالي الكافي للاستمرار. كما أصرّ موزلي على أن فورمولا واحد لا يمكنها أن تعيش على أموال الأثرياء، خصوصاً أن الخطر يهدد الجميع في ظل الوضع المالي المضطرب عالمياً". وزاد:"حتى قبل حدوث هذه المستجدات السلبية في العالم الاقتصادي قلت إن وضع فورمولا واحد قد يهتز، وإذا لم نجد حلاً قبل 2010 سنكون في مشكلة حقيقية. يمكننا أن نعيش في 2009، لكن لست متأكداً إذا بإمكاننا الصمود بعدها". وأوضح:"لا يمكنك أن تدير عملاً مماثلاً تكون فيه التكاليف أكبر باثنين أو ثلاث مرات من العائدات". ووافق بار على كلام موزلي في هذا الشأن:"هناك مشكلة أساسية وهي أن العائدات المتاحة أمام الفرق أقل بكثير من كلفة المشاركة في البطولة". وكان موزلي طرح خفض التكاليف حلاً للتخلّص من المشكلة وإبقاء هذه الرياضة" إذ إن المحرك وجهاز تبديل السرعات يكلّفان نحو 32 مليون دولار في السنة". ولعلّ خير مثال على تحمّل جهات محددة تكاليف السباقات، جائزة سنغافورة"الأولى تحت الأضواء الكاشفة"، والتي غطت حكومة البلد 60 في المئة منها أي 60 مليون دولار وتكفّل بليونير صناعة الترفيه أونغ بينغ سانغ، ال40 مليون دولار الباقية. أجري السباق قبل"الكارثة المالية"وشكّل إعلاناً لا مثيل له للبلد. وتوقعت سنغافورة أن تحصد 70 مليون دولار بفضل السياحة، منذ النسخة الأولى. وعلى غرار سنغافورة ستحذو أبو ظبي حذوها في السنة المقبلة تليها كوريا الجنوبية والهند سنة 2010. وتمثل هذه"اللفتة"الآسيوية عموماً دعماً كبيراً لمالكي الفورمولا واحد، لأن التعاقدات الجديدة مدعومة من حكومات مستعدة لتغطية التكاليف الباهظة، في مقابل الإعلان الكبير الذي يقدمه سباق الجائزة الكبرى. وبعد استدانة مبلغ 2.7 بليون دولار قامت بها شركة الأسهم الخاصة"سي في سي"، المالك الحالي للفورمولا واحد، تحتاج هذه الرياضة إلى كل دولار إضافي تحصل عليه. والنتيجة هي أن ثلث السباقات باتت تنظم في آسيا، في مقابل سباق واحد قبل عشرة أعوام جائزة اليابان. لكن بفضل العدد الكبير من مشاهدي السباقات عبر الشاشة الصغيرة ومشجعيها الأكثر وفاء الموجودين في أوروبا، يرجّح أن تتّبع السباقات الآسيوية الأخرى نموذج سنغافورة أي إقامتها مساء. فيعرض بالتالي الحدث في وقت الذروة في أوروبا، ما يهدىء من روع المشجعين ويسمح لإدارة فورمولا واحد أن تفرض ثمناً أعلى على حقوق النقل التلفزيوني التي تشكّل نصف المداخيل. وكشف البحث الجديد الذي أجرته مجموعة المصارف الهولندية"آي أن جي"، وهي شريك رينو في سباقات فورمولا واحد والمحلل الصناعي في شركة"فورمولا ماني"، عن أهمية هذه الرياضة في الاقتصادات البارزة طبعاً في ظل اقتصاد معافى. وأظهر تقرير نشرته"فايننشال تايمز"إن وقع الإعلان غير المادي على مئات الملايين من المشاهدين هو شيء، إلا أن الوقع الاقتصادي الذي يفرضه معدّل المتفرجين المقدر ب90 ألف شخص في كل سباق إحصاءات الموسم الماضي شيء آخر. وبالتالي لا تغطي السباقات ما تضخه الحكومات من أموال بل توفر مردوداً بنسبة 553 في المئة! وطبعاً، ما من إعلان مكتوب أو متلّفز كفيل بأن يؤدي هذا الدور. وقد يتلقى أفضل الراعين مردوداً مماثلاً على الاستثمار إلا أن التأثير يكون أكبر بالنسبة إلى البلدان. ارتباط بالاقتصاد العام الماضي، حقق سباق جائزة اليابان أكبر مردود على الاستثمار من بين السباقات ويحتاج إلى تمويل متدنٍ من الحكومة يقدّر ب4 ملايين دولار. ويعطي الوقع الاقتصادي المحلي البالغ 70 مليون دولار، مردوداً بنسبة 1750 في المئة، أي أقل بقليل من النسبة التي سجلتها جائزة موناكو الممولة حكومياً ب7 ملايين دولار، لكنها تلقت في المقابل 120 مليوناً أنفقت في السوق المحلية. حتى أن نوربورغرينغ الألمانية التي تستضيف السباق بمردود متدنٍ على الاستمثار، تضخ مردوداً بنسبة 167 في المئة. ويُعزى سبب الأداء دون المعدّل إلى امتلاك الحكومة الحلبة، وتمويلها بالكامل. كما أن المكان الريفي الذي يضم فنادق ومحالاً تجارية ومطاعم في الجوار وحلبات حديثة، يقلّص قدرة البلد على تحقيق نتائج اقتصادية أفضل. تقع الحلبات أمثال مونزا في إيطاليا وسيلفرستون في بريطانيا خارج هذا الإطار، علما بأنها لا تجلب مردوداً على الاستثمار بما أن الحكومات لا تقوم باستثمار سنوي فيها، على رغم أنها مولت أعمال تأهيل لمنشآتها في الماضي.ثمة أربع حلبات فحسب لا تحظى بمساعدة الحكومة وتنعكس الحاجة إلى دعمها، في الواقع أن الحلبات ال13 المعنية استثمرت 275 مليون دولار في سباقات الجائزة الكبرى التي أجريت في بلدانها العام الماضي. ويصعب إيجاد بديل لهذا المستوى من التمويل ويُرجّح بالتالي أن تدعم الحكومة السباقات مستقبلاً. ولا تتأتى الفوائد الاقتصادية التي تحصدها الحكومة من إنفاق المال في المطاعم والمحال التجارية فحسب. فقد أظهرت دراسة أجريت عام 2005 أن سباق جائزة أستراليا وفّر نحو 3650 وظيفة لسنة كاملة و194994 ليلة إضافية للزوار.ولا يأتي الزوار من أجل حضور السباق فحسب بل يمضون أياماً أخرى بعده، فيما يزور مشجعون الحلبة التي تحتضن السباق. وهي تصبح مقصداً لهم، خصوصاً عندما تكون جزءاً من شوارع المدينة فالنسيا أو موناكو مثلاً، فتصبح بالتالي المعالم المحلية مرتبطة بالسباق. وفيما يستغرق إنشاء حلبات خاصة بالسباق سنوات عدة، يستغرق تنفيذ حلبة في الشارع كما حصل في سنغافورة سنة واحدة. يسمح ذلك للضيوف بأن يستمتعوا أكثر بالفورمولا واحد، ويجلب في وقت أقل المال الوافر إلى شركة"سي في سي". يسمح اللجوء إلى"بناء"حلبات في الشارع للمدينة المضيفة بأن تستخدم منشآت موجودة أصلاً بنى تحتية ... ما يخفّض الكلفة في حال تقرر صرف النظر عن المشروع لاحقاً. وسيجري سباق أبو ظبي على حلبة في جزيرة ياس القريبة من منتزة فيراري، فيما سيقام سباق كوريا الجنوبية في جيولانامدو وهي منطقة جميلة في طور النمو. لكن السباق قد يغيّر هذه المعالم. وستُبنى نصف حلبة كلفتها 264 مليون دولار، وستمتد على طول منتزه بالقرب من المرفأ وتستخدم مجمعاً يضم محال تجارية ومطاعم ومقاهي ومنشآت للمعارض.ويعتبر الموقع سر نجاح المشروع، لا سيما أن40 في المئة من المتفرجين ليسوا من المنطقة. وكلما كبُر هذا الرقم كلما زاد الإقبال على الفنادق المحلية. وفيما تنظّم المدن ذات الكثافة السكانية العالية التي تستضيف السباقات، حملة إعلانية واحدة كبيرة في كل منطقة، يقدم ذلك فرصة أكبر لينفق السياح أكثر. وتعتبر البحرين مع موقعها الاقتصادي الذي يصل إلى 395 مليون دولار، المثال الأفضل على ذلك، فيما تضخ جائزة كندا 70 مليون دولار وهو رقم جيد لكنه بعيد من المراتب الأولى. إلا أن الزيادة في الإنفاق بفضل الحدث في كندا، تحدد الوقع. فقد أجرت شركة"مونيري سلوشن"، أكبر مصنع لبطاقات الإئتمان دراسة حول السباق عام 2004، كشف أن إنفاق السياح زاد بنسبة 261 في المئة خلال أسبوع المنافسات مقارنة بالأسبوع الذي سبقه. كما ارتفع الطلب على المواصلات بنسبة 24 في المئة، والإنفاق في متاجر الرياضة 20 في المئة، وفي المحال التجارية الأخرى 12 في المئة، وفي المطاعم 8 في المئة. وما يدل على قيمة سباقات الجائزة الكبرى، بالنسبة إلى الحكومات، تلك التي تبرز من جديد على روزنامة بطولة العالم. فمثلاً ألغي سباق بلجيكا على حلبة سبافرانكورشان عام 2006 بعد أن أفلس المنظمون بسبب تدني إقبال الجمهور وارتفاع تكاليف تأهيل الحلبة. لكن الحكومة قدمت قرضاً قيمته مليوني يورو لأعمال التحديث. وعادت"الجائزة"إلى موقعها في السنة التالية.