يشكلون خلية تواصل ما أن تعلن الشمس مغادرتها، فتجدهم يتسابقون للوصول إلى أبواب الأهل والجيران والأقارب، وهم يحملون على رؤوسهم أو بين أيديهم، مائدة مصغرة يحاولون التعبير من خلالها عن كرم هذا الشهر، ويطمحون إلى أن يصلوا قبل أن يصل غيرهم إلى ذلك المنزل أو ذلك المكان. من يمر بمدن وقرى الأحساء والعصر يلفظ ساعاته الأخيرة، يستطيع أن يجزم بأن حدثاً ما على وشك الظهور، والمشاهد للمرة الأولى يمكن أن يفسّر خروج الأطفال والرجال والنساء وهم يحملون على رؤوسهم أواني مغطاة لإيصالها لبيت الجار أو الأهل، أنه مسابقة شعبية في الأكل توشك أن تبدأ. هذه العادة القديمة الحديثة لا تزال تجد مكانها بين الكم الهائل من العادات القديمة التي ترفض الأحساء التخلي عنها، وتسمى ب?"النقصة"، أو"البركة"، والأولى تعني"أن يشتهي صاحب الطعام أن يأكل أحد غيره منه، لأن نفسه ألحّت عليه بأن يهديها لصديقه أو لجاره أو لأي كان"، أما الثانية فتستمد تسميتها من اقترانها بشهر رمضان الذي يؤمن الصائمون فيه بأنه"خير وبركة"، وما يهدى من مائدة الإفطار ما هو إلا تجسيد لتلك"البركة". تجسد هذه العادة قمة هرم التواصل الاجتماعي في المنطقة، بل إنها تعد دورة مكثفة في الإيثار، والترابط والتراحم، يقول جبر السيد:"حين تنتهي زوجتي من إعداد الإفطار وإعداد ما سنتهادى به مع الجيران، يتسابق أطفالي على تأدية هذا الواجب، وعلى رغم الإزعاج الذي يحدثونه إلا أنني أكون في قمة سعادتي حين أراهم يتشاجرون على فعل الخير". ويضيف:"تربينا على هذه العادة الكريمة، وربينا أبناءنا عليها، وهي ليست كما يظن البعض أنها صدقة أو دفع للبلاء، بل هي عنوان للمحبة والترابط الاجتماعي في هذا الشهر الفضيل، فنحن نتهادى بها مع منازل مقتدرة وأخرى فقيرة، فلا حدود لها ولا محيط تسير فيه". وتؤمن هذه العادة"النقصة"، مائدة الإفطار للأسر المحتاجة والفقيرة، ولا تحرمها من تناول وجبة إفطار متكاملة، وتمنعهم من الاستجداء وتحملهم على عزة النفس، يقول إبراهيم الصويل:"لا يمكن أن تجد أسرة في حينا على سبيل المثال من دون وجبة إفطار، أو يقتصرون على طبق أو طبقين، لأننا نصنع مائدتنا ونعد أطباقاً لموائد الجيران، فلا نحمل الفقراء منهم على الطلب أو الاستدانة، ويأتي هذا بصورة طبيعية لا تسبب الإحراج". ولا تقتصر الأطباق التي ترسل إلى بيوت الحي على الأطباق الشعبية فحسب، بل تتعداه إلى الأطباق الحديثة والمبتكرة، وتؤكد فاطمة السلمان ذلك:"أجمل ما في هذه العادة أننا نجرب أطباقاً مبتكرة من الجيران فنسألهم عن الوصفة ونطبقها، ويحدث هذا تنافساً قوياً بما يشبه مسابقة الطبخ، ونحن النساء نغار من التميز ونحاول أن نتعداه، فتجدنا في اليوم التالي نحرص على الابتكار والتميز في موائدنا، فهو أمر محفز ومشجع". وتتيح هذه العادة للنساء المشاركة في توزيع الأطباق، مبتعدات عن المحاذير الاجتماعية لخروج المرأة وهي تحمل أطباقاً وأشياء أخرى، تقول السلمان:"أنا شخصياً أحرص على إيصال الأطباق بنفسي لمنازل الجيران، لأنني أشعر بسعادة لا توصف حين أسمع دعاءً أو شكراً أو ثناء، وما يجعلني أطير فرحاً حين أرى طفلاً يبتسم في وجهي فرحاً بالطبق الذي كان يتمناه". وتختلط مظاهر هذه العادة بصوت الأذان ليشكلان صورة روحانية جميلة، فالرجال يتسابقون للمسجد، والأطفال والنساء ما بين منزل وآخر، يقول عبدالمنعم السطي:"حين أرجع إلى المنزل بعد صلاة المغرب أتوقع أن أجد أطباقاً جديدة غير التي شاهدت إعدادها قبل ذهابي للصلاة، ويبدأ السؤال من أين هذا؟ ومن أين ذاك؟، لأشعر بعدها بحب جيراني لي وحبي لهم، إنه أمر رائع".