عوداً على بدء ، وتتمة لما مضى في المقال السابق، لا بد من أن يُعلم أن كلمة الضرب لم تأت في الشريعة مجردة عن رسم المعالم، وبيان الأحكام، بل كتب الشريعة على اختلاف تخصصاتها من تفسير وحديث وفقه، فصلت أحكام"ضرب النساء"، ومن أحكامه: 1- ألا يلجأ الرجل إلى الضرب إلا للضرورة، وبعد استنفاد وسيلتي الوعظ والهجر في المضجع، وتركه مع هذا أولى تأسيًا برسول الله، بل جاءت أحاديث في النهي المطلق عن ضرب النساء، منها ما أخرجه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر النهار"، وحديث:"اضربوا ولن يضرب خياركم"، قال الحافظ:"قوله باب ما يكره من ضرب النساء فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقًا، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم"، وفي حديث:"ولن يضرب خياركم"رخصة أقرب ما تكون للحظر. 2- الشريعة الإسلامية قيدت استخدام الضرب بقيود منها: - ألا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن. وفي حديث معاوية القشيري"ولا تضرب الوجه ولا تقبّح". - ألا يضرب بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأديب على أبلغ الوجوه، ولذا جاء في الحديث النهي عن الجلد فقال:"لا يجلد أحدكم امرأته". وجاء عن ابن عباس وعطاء أن الضرب يكون بالسواك وما أشبهه. - ألا يكون الضرب مبرّحاً، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع:"... فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح". قال النووي:"... وأمّا الضرب المبرح فهو الضرب الشديد الشاق، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاق، والبرح المشقة، وفسّره الفقهاء بأنه الذي لا يكسر عظمًا، ولا يشين شيئًا"لأن القصد منه الإصلاح والتأديب، لا التشفي والهلاك، فإن اعتدى الرجل في ضرب زوجته حتى أفضى إلى التلف فقد وجب الغرم على مسائل القصاص في كتاب الحدود، لأنه تبين أنه إتلاف لا إصلاح، ثم الزوج وإن جاز له الضرب فالأولى له العفو". 3- إن تحرير الاسلام للمرأة من الزوج الضارب يزداد تأكدًا حين نطلع على المجتمعات التي يغيب الإسلام عنها وعن أفرادها، فنرى كم من الرجال يضربون زوجاتهم، وكيف يضربونهن، ويتعالون عليهن، وقد أجريت دراسة أميركية في عام 1407ه 1987 أشارت إلى أن 79 في المئة من الرجال يقومون بضرب النساء، خصوصاً إذا كانوا متزوجين منهن، وكانت العينة من طلبة الجامعة، فإذا كان هذا بين طلبة الجامعة، فلا شك في أنه أعلى نسبة بين من هم دونهم تعليمًا. - وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأميركي للصحة النفسية، جاء فيها أن 17 في المئة من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف هن ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء، وأن 83 في المئة دخلن المستشفيات سابقًا. - وذكرت دراسة ألمانية أن ما لا يقل عن 100 ألف امرأة تتعرض سنويًا لأعمال العنف النفسي أو الجسدي التي يمارسها الأزواج. - وفي فرنسا تتعرض حوالى مليوني امرأة للضرب. - وفي مدينة أمستردام في هولندا، عقدت ندوة اشترك فيها 200 عضو يمثلون إحدى عشرة دولة، وكان موضوع الندوة"إساءة معاملة المرأة في العالم أجمع"، وقالت إحدى المشاركات في الندوة:"إن مسألة إيذاء الزوجات متفشية في كل المجتمعات، وحتى زوجات القضاة والأطباء يلقين الأذى على أيدي أزواجهن، والسلطات غافلة عن هذه المشكلة المأسوية" وهكذا يضرب غير المسلمين زوجاتهم من دون قيد ولا حساب، ولأتفه الأسباب، فأين هم من الإسلام الذي جعل الضرب الوسيلة الأخيرة في الإصلاح، ضرباً لا يقصد منه الإيلام وإطفاء الغيظ، بقدر ما يقصد منه إعلان الأسف، وعدم الرضا بالسلوك. فهو ضرب إصلاح وعلاج، لا ضرب إيلام وإزعاج. ورحم الله الأول حيث قال: رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلّت يميني يوم أضرب زينباً ثم إنك لا تجد في الإسلام بيت الطاعة، تلك الصورة الكئيبة، التي يستعين فيها الرجل بالشرطة لإذلال المرأة من أجل إكراهها على الطاعة، أو إسقاط المفروض لها من النفقات بأنواعها. وهكذا يتبين لك عدل الإسلام في تشريع الضرب للتأديب، وضبطه، وتحديد وقته. * داعية وأكاديمية سعودية. [email protected]