ذكرنا في مسألة «ضرب النساء» في المقالة السابقة أنه من الإساءة للشرع القادحةِ في المروءة أن يتذرعَ أزواجٌ بآية «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن» لإطلاق اليد في ضرب نسائهم ضرباً مبرِّحاً، فليس هذا من المروءة ولا من الشجاعة والقوة في شيء، وقد عاب الرسول ذلك وذمّه، فقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ» متفق عليه، بل بوّب البخاري في صحيحه باباً سماه بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ «وَاضْرِبُوهُنَّ» أَيْ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وكل رخصة في ضرب النساء جاء مقيداً بأن يكون غيرَ شائن، ومن ذلك قوله: «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ» أخرجه مسلم، ولما أمر الله بجلد الزانيَيْن قال: «ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين». وإنما كان كذلك لأنه جلدُ عقوبة وحَد، مقصودٌ فيها الإهانةُ والإيلامُ النفسي والجسدي، ولذا أمر أن يشهدَ جلْدَهما طائفةٌ من المؤمنين، بخلاف ضربِ الزوجات الذي لا ينبغي أن يكون بمشهد أحد. إنها خُطواتٍ في التأديب والإصلاح يحاولها الزوجُ وحدَه من غير تدخُّل أحدٍ، محاولةً في احتواء المشكلة في جو خاصٍ بعيدٍ عن تقاذفِ التُهم والملاسنة، وتصعيدِ المشكلة، واستجلابِ مزيدٍ من الخصومة. وقد يفقد الزوج السيطرة على احتواء المشكلة بعد كل هذه المحاولات المشروعة، أو يفتقدُ الحكمة في الإصلاح فتتفاقم المشكلة مع كل محاولة، فلا يجوز أن تُتهمَ الشريعة بأن أساليبها الإصلاحيةَ قاصرةٌ لا تناسب ظروف العصر وتغير الزمان، ففشل هذه المحاولاتِ الإصلاحية لا يأتي من جهة قصورها وعدمِ مناسبتها لعصرنا؛ ولكنه يأتي من جهتين لا علاقة للشرع بهما، فإما من قصور الزوج في تطبيق هذه المحاولات حين يأخذ بظاهر هذه الأساليبِ مجردةً عن روحها الذي هو صدقُ القصدِ في الإصلاح، فالمحاولات الثلاث لا تجدي جدواها حين يحاولها الزوج بروح الاستعلاء والمراغمة والمغالبة ومحاولةِ إذلال الزوجة وإهانتها بطريقة استفزازية تثير كبرياءها، فيتحولان إلى خصمين يتهارشان في حلبة صراع، وما ذاك إلا لأن الأساليبَ قد أخذ بها مجردةً عن روح الإصلاح وصدقِ الرغبة في التأليف. الجهة الثانية، هي أنه قد يأتي الفشل من قِصر نفس الزوج في محاولة الإصلاح ومن قلة صبره واحتماله، فربما تجمل بالصبر والحلم سويعات محاولةً في استصلاح زوجته، ثم تأتي الحماقة والغضب متسارعان فيَحْطِمان كل محاولة. وقد يأتي فشلُ المحاولات من جهة الزوجة، حين تكون مستعصية على كل إصلاح بسبب طبيعةٍ خاصةٍ رُكبت فيها، أو بسبب قصور في تربيتها وتأهيلها، أو بسبب بغضها الشديد لزوجها فهي تستميت في مفارقته ومراغمته. وحينئذ يكون شأنُ وسائلِ الإصلاح هذه كشأن أساليب الدعوة التي أمر الله بها في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... الآية) فقد يأخذ بها الداعي فلا يلقى بها قَبولاً لدى المدعو؛ فليس بالضرورة أن يكون السببُ في قصور أسلوب الدعوة، فقد يكون السببُ فيما ركب في المدعو من كِبْر نفسِه واستعلائها وتأبيها على الانقياد. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]