أحد قوانين نيوتن الفيزيائية ينص على أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار ومعاكساً له في الاتجاه، والطريف أن هذا القانون يسري في الحياة ككل وليس الفيزياء فقط، مثل العديد من الأفعال التي أدت إلى نشوء ردود أفعال معاكسة وقوية تجاه التخصصات الإنسانية، كانت بقدر الضعف الذي أصاب هذه التخصصات، فأصبحت تلاقي النبذ من المجتمع وسوق العمل والجامعات، فالمجتمع بات ينظر لغالبية المتخصصين فيها نظرة ملؤها الشفقة حيناً والازدراء حيناً آخر، مقارنة بالمتخصصين في التخصصات العلمية"الذين لهم مستقبل"بحسب التعبير الشائع، أما سوق العمل فليس لهم مكان فيها ما لم يلتحقوا بدورات الحاسب الآلي واللغات، فتصبح هي معيار تقويمهم وليس التخصص الأساس، أما الجامعات فلا تضع من المعايير للقبول في هذه التخصصات الإنسانية سوى أدنى النسب في الثانوية العامة، وكأنها وجدت لاستيعاب المتعثرين دراسياً، فلا ينضم إليها إلا من فاتهم القبول في التخصصات المأمولة، والادهى والأمر من ذلك الدراسات التي توصي بين الفنية والأخرى بإغلاقها لسبب أو لآخر، إضافة إلى أن كثيراً من الجامعات حديثة النشأة لم تكلف نفسها عناء فتح أقسام لهذه التخصصات. والسؤال هنا: هل العيب في التخصصات ذاتها، أم المتخصصين، أم هو في النظرة السائدة فحسب؟ اعتقد أن المشكلة مركبة ويبدأ الخيط الأول منها من القطاعات التعليمية، فالتعليم الأساسي رسخ في أذهان الطلاب أن هذه التخصصات هي مجرد نظريات صماء تحفظ ثم تعاد كتابتها في الامتحانات نسخ ولصق، وقدمتها في قوالب جامدة تفتقر لأدنى جزء من الارتباط بالواقع ومن التشويق، أما الجامعات فنجد أنها فتحت هذه التخصصات ? التي من المفترض أن تكون لنخبة تعشقها ولديها القدرة على الإبداع فيها ? أمام من تعثرت حظوظهم في الدراسة ولم يجدوا غير هذه التخصصات التي ستؤمن لهم الحصول على شهادة جامعية بطريقة النسخ واللصق أيضاً، سهل ذلك منهجية التلقين المتبعة في كل القطاعات التعليمية، والتي تفقد المتعلم الإحساس بأهمية إدراك ووعي ما يقرأه، لتتحول جميع الكلمات إلى رموز بلا دلالات! هذه الأجواء العكرة أوجدت شريحة ممن يُطلق عليهم متخصصون وجامعيون، لا يملكون أدنى أدوات العلم، ولا يعرفون الأساسيات التي قام عليها التخصص الذي درسوه سنوات طويلة، ولا يفقهون من أبعاد الفكرة والفلسفية التاريخية شيئاً، فضلاً عن عدم معرفتهم بتطبيقاته في الواقع، ما يجعل فئة منهم ? وقد تكون أفضلهم ? تنعزل عن الواقع لتهيم في عالم التنظير، فلا يستفيد المجتمع من تميزهم شيئاً، والفئة الأخرى تحسب على التخصص وهي منه براء. وما يؤكد ذلك نظرة خاطفة على اطروحات طلبة الدراسات العليا، التي غالبيتها تميل إلى جانب نظري يخلو من أي اثر للإبداع، أو تقديمها حلولاً مثالية لا يمكن تطبيقها على الأرض، أو إتباع سياسة النسخ واللصق بطريقة غير مباشرة، ما يزيد من الفجوة بين هذه التخصصات والمجتمع، فتتوقف عن القيام بدورها الأساس تجاهه حتى تتحول إلى عالة ثقيلة. فالدرس الأساس، والذي وجدت من اجله هذه التخصصات الإنسانية ? وأخص منها الآداب والفنون ? هو تكريس الفكر والثقافة والقيم المعنوية للمجتمع الذي توجد فيه والتخفيف من المشكلات التي يتعرض لها هذا الجانب، الذي لا غنى للحياة عنه بتغير الظروف والزمن. ومثال تقريبي لطريقة عمل هذه الدول: أهمية تخصصات اللغة في المساهمة في إيجاد حلول للوضع اللغوي في المنطقة وعمل الأبحاث التي تسهم في ذلك، ومن ثم تطبيقها على الواقع، ما يؤدي إلى انتشار الوعي اللغوي في المجتمع وإيمانه بأهمية الانتماء لهذه اللغة والثقافة التي تشكل هويته والتي يعد جزءاً لا يتجزأ منها، إضافة إلى علاج المشكلات اللغوية المترتبة على التغيرات السياسية والاقتصادية وغيرها التي قد تلحق بأي مجتمع حيوي. هذا هو المفترض والواجب، أما الواقع فتخصصات اللغة العربية ليس لها دور سوى في إجراء بعض محاضرات وندوات وبحوث لا يكاد يستفيد منها المجتمع، وبسبب الإخلال بالقيام بهذه الواجبات، نجد بروز مشكلات مثل عدم الانتماء والوعي بأهمية اللغة، يؤكد ذلك تسارع المجتمع زرافات ووحدانا إلى استبدال الإنكليزية بالعربية في كثير من الأنشطة اللغوية. وهذه المسؤولية يتحملها القائمون على هذه التخصصات والمؤسسات اللغوية الأخرى التي نسمع بها ولا نراها، فلو كانت هناك كفاءات مؤسسية وفردية تتبنى العمل المؤسسي اللغوي وتأخذه على عاتقها بقوة، وتستطيع حمل راية الإفادة من هذه التخصصات، لما أصحبت هذه التخصصات ومنسوبوها عالة على المجتمع، ولما زادت إلى المشكلات اللغوية معضلة البطالة. والأمر لا ينطبق على تخصص اللغة العربية فحسب بل يندرج تحته كل التخصصات التي تتقوقع على ذاتها من دون ان تضيف للنشاط الفكري للمجتمع وتسهم في تشكيله على النحو المفترض الذي يتناسب وثقافة هذا المجتمع والظروف والمتغيرات التي يعرض لها. هذه الجفوة أدت للتوجه المحموم نحو التخصصات العلمية، على رغم أن المنهج العلمي التجريبي والذي اشتقت منه التسمية يدخل من ضمن المناهج التي تتبعها التخصصات الإنسانية بما ذلك الآداب والفنون. وفي أي أمر من أمور الحياة نجد أن الاعتماد على شق من دون آخر يؤدي إلى الاختلال، لأن الحياة يجب ان تسير على أركانها بالتوازن، الأمر ذاته يتكرر عند التركيز على التخصصات العلمية التي تبحث بطبيعتها في الجوانب المادية المحسوسة من الحياة، ما أدى إلى بروز التفكير المادي الاستهلاكي كثقافة ومنهج حياتي، وتهميش الجانب القيمي والروحاني، فأصبحت النظرة المادية هي المعيار الأساس لتقويم كل شيء ابتداء من الإنسان إلى الأفكار، ليتحول العالم إلى اسئلة تبدأ بكم؟، وتكون اجابتها رقم، ويضيع الإنسان في هذا الزحام. ولا أعني بذلك هجران هذه العلوم، بل أني أنادي بضرورة التعامل معها بحكمة وليس بانجراف عشوائي مثل الذي نقوم به تلقاء كل جديد، فيضيع الجديد والتليد. فالحياة تحتاج لفكر ومعنويات مثلما تحتاج للمادة والمسحوسات، والروح لها حاجات مثل ما للجسد بل وأكثر، فلماذا نجبر الحياة على الطيران بجناح واحد؟ ونغير سنن الكون ونواميس الحياة من دون بصر في العواقب والآثار؟ والإنسان إنسان في كل عصر، هو دائماً يحتاج لما يلبي حاجاته الفكرية والروحية والمعيشية. ونقطة مهمة ينبغي الإشارة اليها وهي أنه ينبغي عند التخطيط في مسألة نوعية التخصصات أخذ هوية الإقليم بعين الاعتبار، ونحن كعرف أمة متخصصة في الروحانيات والآداب والشعر والفلسفة وعلوم أخرى هي من صلب هويتنا وثقافتنا، فمن المفترض المحافظة على هذه الصدارة واستغلال هذا التميز وتطويره بدلاً من ان نعمد إلى هد محصلة قرون من البناء بسبب هوس التقليد. والحل المطروح بدلاً من الحل العشوائي المتبع حالياً والمتمثل في إحلال التخصصات العلمية محل الإنسانية والاهتمام بالأولى على حساب الثانية، هو تفعيل التخصصات الإنسانية بما يخدم المجتمع وإنشاء مراكز متخصصة للقيام بهذه المهمة تديرها كفاءات متمكنة ومبدعة، والاستفادة ? ببعد نظر ومن دون تقليد أو تهجين ? من النماذج التي تمثل ذلك في الأمم الأخرى، لأن لكل مجتمع ثقافة وفكراً يختلف عن الآخر، إضافة إلى تقنين القبول في الجامعات وحصره في المبدعين الذين يملكون المهارات الفكرية اللازمة لذلك، والذين يستطيعون السير بهذه التخصصات نحو المفترض منها، حتى ينشأ جيل جديد من الكفاءات القادرة على مواجهة مختلف التحديات في هذا المجال وإثراء الحضارة الإنسانية. * كاتبة سعودية. [email protected]