عندما غزا نابليون بونابرت مصر في القرن الثالث عشر الهجري، كانت هناك فجوة ثقافية كبيرة بين المصريين والفرنسيين، فقد كان الفرنسيون أكثر إدراكاً وفهماً لطبيعة البيئة المصرية بمكوناتها الثقافية وإمكاناتها المادية، وكانوا، إضافة إلى ذلك، قطعوا شوطاً علمياً، تمثل في اختراع الطباعة، وعسكرياً، وهو ما غاب عن إدراك الإنسان المصري وأخيه العربي. هذه الفجوة لم يكن سببها الاختلاف الثقافي الملازم لكل أمة والمعبِّر عن شخصيتها، ولكنها كانت تتجلى في حال الانغلاق الثقافي وانعدام فهم الآخر، وسبب هذه الحال التي عاشها العالم الإسلامي في تلك الحقبة"هو اجترار التعليم للطرق والعلوم التقليدية من دون أي انتقاء وتحديث، بما يتناسب مع الواقع، ومن دون الاستفادة من أي تلاقح فكري مع الآخر، أو حتى محاولة فهمه، فلم تكن هناك حركة ترجمة فعلية، ولا رحلات استكشافية منظمة للآخر، إلا على نحو سياسي ضيق لا يهدف لإثراء الحركة العلمية وإنعاش الثقافة، مثلما كانت الحقبة التي تسبقها من القرن الثالث وحتى القرن الخامس الهجري، التي تُعرف سياسياًَ بالدولة العباسية، أفضل حالاً من ناحية الانفتاح الثقافي، تجلى ذلك في ازدهار الحركة العلمية على اختلاف مكوناتها واتصالها بثقافات الآخر عن طريق الترجمة، والتي أثرت العلوم مثل العلوم الدينية والطب والفلسفة والفلك، واستمر تأثيرها إلى ما بعد تلك الفترة عندما ظهرت أجيال من العلماء الذين نفعوا العالم على الامتدادين الزماني والمكاني، مثل ابن خلدون وابن سينا وابن رشد وابن بيطار والبيروني ونصير الدين الطوسي. ولم يؤد هذا الانفتاح، الذي طبق على أفضل وجه في تلك الفترة، إلى مسخ الثقافة والهوية العربيتين، فلم يعمد هؤلاء العلماء وغيرهم إلى نسخ هذه الثقافة بكل ما تحويه من أفكار، بل إنهم اقتبسوا منها وانتقدوها وأضافوا إليها الكثير حتى ظهرت من هذا المخاض ثقافة إسلامية عربية مميزة ومؤثرة ومستقلة، فطبيعة العلوم والحضارات تثبت أنها لا تخلق من العدم، ولا تكون إلا بعد تلاقح فكري يعبر حدود الزمان ليتصل بالماضي، ويعبر حدود المكان ليتصل بالأمم الأخرى، ومن توارد هذه الأفكار وتلاقيها يتكون شكل جديد لثقافة جديدة، تحمل شخصية فريدة لإنسان هذا المكان والزمان، فعلى سبيل المثال نجد أن الجاحظ عندما ألف موسوعة "الحيوان" كان من بواعث تأليفه لهذا الكتاب قراءته لآراء أرسطو حول موضوع الحيوان، والتي كانت تحتوي بعض المعلومات غير الدقيقة والمغلوطة، فعكف على تأليف هذه الموسوعة العربية السمات والشكل واللغة والإنسانية المحتوى لتأصيل هذا العلم. وكنتيجة للإفراط والتفريط في التعامل مع مفهوم الثقافة نجد أننا ? غالباً - نتعامل مع كل فكر جديد بعقلية مغلقة ومتحجرة... هذا التعامل جعلنا لا ندرك كيفية الاستفادة من الأفكار التي تأتينا من الأمم الأخرى على اختلافها، سواء كانت منتجات تقنية، وطريقة تعاملنا مع "الانترنت" والجوال شاهد جيد على ذلك، أو كانت منتجات ومذاهب فكرية مثل تعاملنا مع السينما والمسرح، وفكرة العولمة أو ال?حداثة، وعلى رغم أن وسائل الاتصال اليوم باتت أكثر سهولة من الناحية الفنية... فوسائل الإعلام اليوم لم تسهم بالشكل المفترض في تدعيم الانفتاح الثقافي وفهم الآخر، بل إن الإعلام المرئي على وجه الخصوص لا يزال يبث لنا صوراً مغلوطة عنا وعن ثقافتنا وعن الآخر، فهي تصور المنطقة العربية وكأنها منطقة إرهاب وحروب ولهو وتخلف، وتصور لنا الغرب بصورة مثالية، فأفلام هوليوود التي خصصت لها قنوات بأسرها تظهر لنا الشخصية الأميركية في صورة بطل خيّر، لا تقهره الصعاب، يحارب الأشرار في سبيل البشرية، أو كشخصية إنسانية مغرقة في العطف والمحبة للعالم مهما كانت سلبياتها، وبطبيعة الحال هذه الصورة التي تقارب الحكايات الشعبية لا تمثل واقعنا ولا واقع غيرنا. وسيلتنا لتعامل أكثر عقلانية مع الآخر تتجسد أولاً في تكوين صورة واضحة عن أنفسنا وشخصيتنا، ثم الاحتكاك مع ثقافات الأمم الأخرى بتجرد وحياد لا يلغي الطرفين، وبما لا يزيد على الاقتباس والنقد، بما يؤدي إلى إدراك أفضل لكليهما، ويصب نفعه في فائدة الإنسانية عامة. [email protected]