الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد أنزل الله الكتاب المبين على رسوله الأمين ليكون تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وموعظة وشفاء لما في الصدور وحجة ومعجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. محفوظ بحفظ الله له لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإن كتاباً بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة حقاً على قارئيه ومتعلميه فضلاً عن حامليه أن يكونوا على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفعوا أنفسهم عن كل ما نهى القرآن عنه، اجلالاً للقرآن وتعظيماً له، وأن يأتمروا بأمره ويتأدبوا بآدابه مقتفين بذلك اثر نبيهم محمد ? صلى الله عليه وسلم ? فقد سُئِلت عائشة ? رضي الله عنها ? عن خلقه فقالت:"كان خلقه القرآن"رواه أبو داود والنسائي. وقال ابن مسعود ? رضي الله عنه:"إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه، وأن أدب الله عز وجل القرآن"رواه الدارمي في سننه. وبذلك تتحقق لهم الخيرية المنشودة من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن عفان ? رضي الله عنه -:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"رواه البخاري. كما ينالون شفاعة القرآن الخاصة بأهله والواردة في حديث أبي امامة ? رضي الله عنه ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه رواه مسلم. مع تبوئهم المكانة العظيمة المتمثلة بالقرب من المولى عز وجل، كما في حديث أنس ? رضي الله عنه ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله أهلين من الناس"، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال:"أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته". رواه أحمد وابن ماجة والنسائي والحاكم في مستدركه. ولعلنا في هذه العجالة نشير إلى شيء من هذه الآداب، منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يأتي: 1- النية الخالصة: فأول ما ينبغي لحامل القرآن وقارئه ومتعلمه ومعلمه أن يقصد بذلك رضا الله تعالى، قال الله تعالى:"وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة"البينة آية 5. وفي الصحيحين عن رسول الله ? صلى الله عليه وسلم -:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس ? رضي الله عنه قال:"إنما يحفظ الرجل على قدر نيته"رواه الدارمي في سننه. وعن ذي النون ? رحمه الله تعالى ? قال:"ثلاث من علامات الاخلاص استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية العمل في الأعمال واقتضاء ثواب الاعمال في الآخرة". وعن الفضيل بن عياض ? رحمه الله ? قال:"ترك العمل لاجل الناس رياء، والعمل لاجل الناس شرك، والاخلاص أن يعافيك الله منهما". وأقاويل السلف في هذا كثيرة. 2- التخلق بالأخلاق الفاضلة والخصال الكريمة والشيم المرضية التي دعا اليها القرآن وأمر بها، من الزهادة في الدنيا والتقلل منها مع السخاء والجود ومكارم الأخلاق والحلم والصبر، الخشوع والسكنية والتواضع وعدم الاكثار من المزح والضحك، يقول ابن مسعود ? رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون أخرجه أحمد وابن ابي شيبة والبيهقي، وعن الحسن البصري ? رحمه الله ? أنه قال: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها في النهار، وعن الفضيل ? رحمه الله -: لا ينبغي لحامل القرآن أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن والمقصود من هذا كله أنه ينبغي لصاحب القرآن أن يكون قدوة للناس متميزاً بسلوكه ومظهره عن أصحاب الفسق والأهواء غير منقطع عن الناس ومتخذ من حملة للقرآن مطية للترفع عنهم والتكبر عليهم، مما قد يجر إلى العجب وإلى أبعد من ذلك، مما لا يليق بعامي، فكيف بحامل القرآن الكريم؟ 3- تعاهد القرآن بالمحافظة على تلاوته والاكثار منها، يقول الرسول ? صلى الله عليه وسلم -:"تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الابل في عقلها"رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه"رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به"رواه البخاري. وكان السلف - رضي الله عنهم ? لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروي عن بعضهم في كل شهرين ختمة واحدة، وبعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن الاكثرين كل سبع ليال ختمة، بل ان بعضهم يختمه في اليوم والليلة، ومنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي. 4- ألا يتخذ القرآن مصدراً للتكسب أو أن يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو جاه. فعن عبدالرحمن بن شبل ? رضي الله عنه ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرأوا القرآن، ولا تأكلوا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه"رواه أحمد والطبراني. وعن جابر ? رضي الله عنه ? عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اقرأوا القرآن من قبل ان يأتي قوم يقيمونه اقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه"رواه أبو داوود وأحمد. قال النووي: ومعناه: يتعجلون أجره إما بمال وإما بسمعة أو نحوهما، وان يكون مستغنياً عما في أيدي الناس، يقول عمر بن الخطاب ? رضي الله عنه-: يا معشر القراء، ارفعوا أنفسكم فقد وضح لكم الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على الناس رواه البيهقي في شعب الايمان. 5- التحلي بالتقوى: وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بفعل أوامره واجتنابه نواهيه، وهي تشمل جميع ما ذكر من الآداب، وجعلناها في الأخير عطفاً للعام على الخاص، فان في ذلك فائدة في ذكر الخاص باسمه وصفته والدليل عليه، ثم يعقب على ذلك بما يشمل الجميع، وهو أسلوب قرآني في البيان والايضاح. نسأل الله عز وجل ان يجعلنا جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، انه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. * عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة