لا أدري لِمَ يصر بعضهم على أن مشكلاتنا تكمن في الفصل بين الجنسين؟ وأن مرض العزل ومشكلة الاختلاط لا توجد إلا في مجتمعنا المحلي، ولا يوجد عليها دليل شرعي إلا العادات والتقاليد البالية التي توارثها المجتمع كابراً عن كابر، وأن هذا المرض الاجتماعي كلفنا خسائر فادحة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وإن شئت الثقافي أيضاً، وحين تسمع لهؤلاء أو تقرأ لا تقف إلا على خواطر وأحكام مرجعها ذهن قائلها، ولا توجد إشارة من قريب أو بعيد إلى بحث علمي حول هذا الموضوع ولا دراسة مسحية؟ ولمناقشة هذه القضية نحتاج إلى تحرير هذه القضية من حيث وجهتها الشرعية، وآثارها المجتمعية، وللشق الأول أعجب من غض الطرف عن جملة النصوص الشرعية الناهية عن الاختلاط والمحذرة منه، ولا أجد عذراً لمنكر هذا الحكم إلا جهل بها، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. ألم يقل الرب تعالى في كتابه وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب؟ وأضعف الأقوال من حمل هذه الآية على أنها خاصة بزوجات النبي، لأن الله علل الحكم بما يقتضي تعميمه ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ولم يقل أحد من المسلمين إن غير أزواج النبي لا حاجة إلى طهارة قلوبهن من الريبة، وأخرج البخاري في باب طواف النساء عن عطاء لما منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال ابن جريج: كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أم قبله؟ قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال. قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة تطوف حجرة أي: منفردة عن الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: عنك وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن، وأخرج الرجال. ثم أورد بعده أن أم سلمة شكت إلى رسول الله أنها تشتكي من المرض فقال: طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة. فدل الحديثان على أن من سنة أمهات المؤمنين الطواف منفردات بعيدات عن الرجال. بل إن الفاكهي في أخبار مكة روى بسند صحيح أن عمر بن الخطاب نهى أن يطوف الرجال مع النساء، ومن يستدل اليوم على جواز الاختلاط بطواف النساء مع الرجال لم يستند على الدليل الشرعي، بل استدل على واقع دعت إليه الضرورة في الحرم، وإن كان يخالف ما عليه السلف الصالح، إذ من عادة نساء السلف الحياء المانع من المزاحمة والقائم على المباعدة. وأخرج أبو داود بسند حسن من حديث أبي أسيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد"اختلط الرجال مع النساء في الطريق"، فقال رسول الله للنساء:"استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به" بل خصص رسول الله للنساء باباً يدخلن منه للمسجد، وجعل خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، ولم يسمح أن تقف المرأة حذو الرجل مع أنهما مشغولان بالعبادة، وخطب رسول الله النساء يوم العيد على حدة، ولم يجمعهن مع الرجال بحجة أن الصوت لم يبلغهن. المراجع لكتب الحديث يرى نصوصاً لا تنتهي عن المجتمع النبوي القائم على العفة مع غاية التمدن، والجرأة في القول بأن المجتمع النبوي مجتمع يختلط رجاله بنسائه جناية على السنة والسيرة، ولا يمكن أن يمر هذا القول إلا إذ لم يبق محدث أو درست كتب الحديث. ومن الطريف أني في إحدى المؤتمرات قابلت سيدة تريد أن تدلل على أن الاختلاط كان الأصل في المجتمع النبوي بدليل ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر أن الرجال والنساء يتوضأون في زمان الرسول جميعاً، فما كان مني إلى أن سألتها ما وقت ورود الحديث؟ فعلمت أنها بحثت من دون أن تملك أدوات البحث، ولم تعلم أن الحديث ورد قبل فرض الحجاب، وخشيت وقتها أن يأتي أقوام يحلون الخمور، لأن الله يقول: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقا حسناً ولا يفرقون بين الناسخ والمنسوخ والخاص والعام، ويتكلمون على الله بغير علم، ويتبعون المتشابه، يقول تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . * داعية سعودية. [email protected]