حينما نسمع كلمة مصيف، تتبادر إلى أذهاننا صورة الشخص الذي عطل كل شيء، بما في ذلك عقله، وأطلق لنفسه العنان ولجسمه كامل الاسترخاء، بمعنى انه لا شغل له سوى الانبطاح وأكل المفطحات، وهذا يعني أن حياتنا صارت لاهية هذه الأيام غير جادة، وان وقتنا أصبح مهدراً لا تحكمه أعمال ولا تضبطه مدارس... بل نسير وفق ما يمليه الهوى العارض من دون تخطيط مسبق أو أهداف مطلوبة، إذ صار الوقت عقيماً لا ينتج عنه شيء! فهل هذه علة الصيف أم علة المصطاف، وهل الصيف فعلا انزواء عن العمل وترف للجسم، يمكن أن يصدق على مصطافه قول الشاعر: دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها فأقعد فأنت الطاعم الكاسي وإذا كان الصيف يعني الإجازة والراحة من العمل بعد المشقة والجهد اللذين أنهكا الجسد وأرهقا الفكر، فماذا عمن لا يعمل، هل يستحق الراحة وهل له ان يجدد النشاط، ومن ماذا؟ إن الذين تعودوا العمل وأحسوا بروعة الإنتاج وسعادة الانجاز سيكون الصيف بالنسبة لهم صاحباً ثقيلا يملون الجلوس معه، فقد تعودوا الشغل والحركة، ولذلك تراهم قلقين محبوسين، أو أنهم سيكيفون صيفهم لاحتضان انجازات جديدة، يتغير فيها المكان والزمان والوجوه وزملاء العمل، وهذا ما يجعل الأذكياء لا يخسرون وقتهم، وإن صيفوا فهم يحولونه صيف إنتاج وثمار، لا صيف عطالة... بل يتخذون من البيئة الغريبة عليهم، بيئة المصيف، موقعاً جديداً لإنتاج روائع إبداعاته، بما يحيون به أوقاتهم فليس عندهم أرض جدباء، فكل ارض يحلون بها يرونها خصبة يمكن أن تثمر! لذلك نجد بين المصطافين من استفاد من أوقات الإجازة، كما نجد آخرين كانت الإجازة وبالاً عليهم وخسراناً، فالإنسان العامل النشط ذو الفكر الحي النشط يجد كل البيئات عنده واحدة، لأنه هو الذي يخلق فيها فرص العمل ولا يركن للدعة والكسل، إذ سيكون من يبتكر مما بها من خامات أدوات لإنتاج يصبح ذا نفع وفائدة، وليس بمنطق الكسب والربح، ولكنه بمنطق العطاء ذي المردود المعنوي والرصيد الباقي ذكراً طيباً، لأنه جعل من الإجازة وقتاً وفرصة لإنجاز جديد باهر وعمل وطني إنساني يفيد وطنه ومجتمعه، وهو يستحضر الآية الكريمة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلاه الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شادياً وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله سارياً وفي بلد التوحيد يتعزز كل هذا ويزيده الإيمان زهاءً، ولو لم نخرج من إجازتنا إلا بفهم هذه المعاني وتوضيحها لأولادنا لكفانا ذلك فوزاً عظيماً غنمناه من وقت عطلتنا، بل هي ليست عطلة لأن الذهن خلالها لم يكن عاطلاً عن العمل بل ظل منشغلاً بالتفكر والتدبر. في بلادنا يطيب التسيار وتحلو التنزهات، بل في ربوعها مراتع للبصر وحسن المناظر، مع ما فيها من قدم الآثار وعبق التاريخ الفواح، ما يغني عن غيرها: بروحي تلك الأرض ما أطيب الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا إن الزمن عميل صارم، فإن لم ينفعك سيضرك، وإن لم تشغله بالمفيد دفعك للمبيد، فإن لم توظفه لصالحك توجه بك إلى ما يهلكك ولذلك تمكن العقلاء من الإمساك بزمام الوقت واستغلوه ليصنعوا أحلام مستقبلهم. لكن حال بعض شبابنا مزرٍ، فهو يدب الليل ماشطاً شعره وينام النهار رافعاً على الرف كل مهمة أو مسندها لأبيه الشيخ وأمه العجوز، ويلعن الحال وربما الأيام لأنها لم تعطه مراده وهو قاعد نائم، فإذا ما تهيأ الناس لإجازاتهم صار"مع الخيل يا شقراء"، وهل المراد والمأمول من الشباب إلا العمل والانجاز مدفوعاً بالتفاؤل، وهل يمكن أن يستمتع بالإجازة وكل وقت إجازته من يقضيها فارغاً فيذهب وقتها هباءً منثوراً؟ إن الإجازة فترة راحة للانطلاق لتجديد الطاقة والحيوية والعودة إلى العمل الوظيفي بروح أكثر حيوية، رغبة في الإنجاز والعطاء حتى أولئك الذين يتصورون أن لا عمل لديهم من عاطلين ومتقاعدين، سيجدون أنفسهم بعد الإجازة أكثر تفاؤلاً وإقبالاً على مسؤولياتهم تجاه أسرهم وتربية أبنائهم ومتابعة تحصيلهم والأخذ بأيديهم... وقبل انقضاء الإجازات، لعل من أفضل ما يمكن أن نقوم به خلالها هو زيارة الأقارب وتفقد أحوالهم ومشاركتهم مناسباتهم أو التعرف على الآثار التاريخية في المنطقة التي نزورها، لأن الآثار رسوم التاريخ تنقشع من خلفها فصوله. ومن المؤسف أن نتجاهل حجراً باستطاعته أن يفصح لنا عن نفر عبروا وما خلفوه من عِبر، فهو كتاب ناطق لمن يستنطقه، أما زيارة المكتبات فهي أجمل المتع وأسعد اللحظات، إذ التجول بين كل العقول، وتجد على الرفوف كل الأجناس، فتنتقي ما تريد وتختار لتضيف لرصيدك المعرفي إضافة نافعة... وها نحن نشاهد كيف يقبل شباب الغرب على قصة هاري بوتر ما يعكس لنا مدى عشقهم للكتاب لأنه هو الذي يمنح سعادة المعرفة التي تضيء طريق الحياة المنشودة. [email protected]