يظن 70 في المئة من الهيئات التدريسية في الخليج العربي والوطن العربي، أن الابتعاث إلى الخارج هو السبيل والمخرج لرقي الوطن وتقدمه في شتى النواحي الاقتصادية أو التعليمية أو الطبية أو العسكرية أو حتى السياسية، وكثير من هؤلاء يستشهدون بأيام السبعينات والثمانينات، بأن الذين قادوا المسيرة وتبوأوا المناصب في الخليج العربي أو الوطن العربي الكبير معظمهم من المبتعثين إلى الخارج، وأنا بصراحة أوافق على هذا الرأي، ولكن يجب علينا أن نكون منصفين وعادلين، ونقول إن هناك فئة من هؤلاء كانت ولا تزال معول هدم لأوطانهم وبلدانهم ولم يفرقوا بين الغث والسمين، وقد بهرهم بريق الحضارة الغربية ولم يغوصوا إلى الأعماق، وظنوا أن الانفتاح والانحلال هو الطريق إلى الرقي والتقدم، وكذلك لم يفرقوا بين ما يجب ان يؤخذ وبين ما يترك، فكانت هذه الفئة حقيقة عالة على أوطانهم ومجتمعاتهم، فتراهم تارة يحاولون إثبات نظرياتهم من خلال محاضراتهم أو ندواتهم، أو من خلال البرامج التي يقدمونها في الإذاعة والتلفاز، أو من خلال المقالات في الصحف اليومية أو المجلات الدورية، أو من خلال كتاب يؤلف في ذلك، وللأسف هناك فئة من هؤلاء المساكين أمنوا حاجاتهم المادية والاقتصادية في أوطانهم، وجعلوا بلدهم كالبنك الذي يؤخذ منه المال فقط، ومنهم من يتمنى أن يعيش بين أظهرهم ويعيش حياتهم وحريتهم، وهذه الفئة حقيقة ينطبق عليها قول الحق تبارك وتعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. لعل أكثركم اطلع على ما حدث في الأيام الماضية من الحملة المسمومة، والمعركة المحمومة التي شنت عبر صفحات الإعلام الداخلي والخارجي على هيئات"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"ورجالها. إن هذه الحملة المحمومة انتقلت عدواها إلى مجالس المسلمين العامة، فأصبحت حديث بعض الناس وشغلهم الشاغل، وأصبحوا يرددون ما يسمعون ويقرأون عن الهيئات، من دون التروي والتأكد من صحة الأخبار من عدمها. لقد رفع المبطلون عقيرتهم بالكذب والافتراء، وسمح لهم، وللأسف الشديد، في بلاد التوحيد، أن يستغلوا المنابر الإعلامية لتشويه صورة المصلحين والآمرين ووصفهم بأنهم غوغاء، وبأنهم متعصبون متعجرفون، وأنهم خطر على المنجزات الحضارية للأمة وأنهم يتدخلون في الحريات الشخصية، وأنهم ضد التقدم والتحضر والرقي، ويقولون إنهم ضد الرفاهية الاجتماعية، ويشيعون عنهم بأنهم ضد الاقتصاد المتحضر، وبأنهم ضد الإعلام، وغير ذلك من الشبه الشيطانية التي يلقيها عليهم فينقلونها للقارئ والمشاهد والمستمع، على مختلف ثقافتهم وميولهم. فأول تلك الشبه الافتراءات، قولهم"إن المصلحين في المجتمعات الإسلامية متعصبون ومتزمتون، ومتعجرفون وجامدون، وبأنهم أصوليون متشددون. وهل هناك خير من سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام؟! إننا نجد في الكتاب العزيز كيف تجرأ المبطلون وأطلقوا على النبيين، خيرة خلق الله، ألفاظ الشماتة والكذب والبذاءة، لأنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. فهذا نبينا محمد"صلى الله عليه وسلم"الذي كان بشهادة الكفار الصادق الأمين، فلما أمرهم ونهاهم، ما تركوا لفظاً من قاموس السب والشتم إلا وصموه ووصفوه به، عليه الصلاة والسلام. إننا في زمان انقلبت فيه الموازين، وانتكست المقاييس، فهذا الذي يغار على دين الله عز وجل، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصلح الفساد في الأرض، يطلق عليه: أنه معقد وأنه جاهل ومتشدد ومتنطع، وأنه خطر على المنجزات الحضارية. أما المواطن الصالح المعتدل، في نظرهم، فهو ذلك الساذج الذي يساير الناس على أوضاعهم، ويوافقهم على أهوائهم، هذا هو صاحب الحكمة والرزانة والتعقل عندهم، ولو كان غافلاً جاهلاً، بل ولو كان منافقاً أو علمانياً. وبمثل هذا وصف الرسول، ألم تسمع في كتاب الله عز وجل كيف وصف فرعون موسى عليه الصلاة والسلام؟! فقال عنه: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال فرعون عن نفسه: وما أهديكم إلا سبل الرشاد. عجباً والله! فأي رشاد عند فرعون؟ وأي فساد عند موسى؟! لكنه الكذب والتزييف وقلب الحقائق. وما يطلقه المبطلون على المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بأنهم يتدخلون في حريات الناس الشخصية! والجواب: إن الحرية الشخصية للإنسان مكفولة بكتاب الله عز وجل ومضمونة بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحمية بشرع الله عز وجل، حتى ولو كان كافراً، والمصلحون أول من يفهم الحرية الشخصية، بل ويطبقها ويدافع عنها، فهم يسعون لردع الذين يعتدون على حريات الناس، فيعتدون على أموالهم بالنهب والسرقة، ويقاومون الذين يعتدون على أعراض المسلمين. إن المنافقين والمجرمين يريدون حرية شخصية من نوع آخر، لا ضابط لها ولا قيود، متفلتة من كل دين، بل متحررة من كل قيمة وشيمة، بل كل معنى للوطنية، يريدون فوضي أخلاقية واجتماعية، كتلك الحريات الموجودة في أمم الغرب والشرق من دول اليهود والنصارى. إنها ليست حرية، إنها فوضى أخلاقية واجتماعية، أنها تطبيق لتوجيهات الحاقدين من اليهود والنصارى، والفاسدين من الغرب والشرق، إنها اعتداء على حرية المجتمع المسلم بأسره. إن ما يشاع ويروج ضد الآمرين والناهين المصلحين رجال الهيئات أنهم يقفون حاجزاً أمام التقدم والرقي الحضاري، وكشفاً لهذه الشبهة وجواباً عن هذا الأمر نقول: إن المصلحين أول من يدعون إلى الحضارة والتقدم، لكن الحضارة عندنا حضارة عامة وشاملة، إننا نريد حضارة في الفكر والأخلاق والسلوك، ونريد حضارة في الاقتصاد والعمران والهندسة، والمعامل والفضاء، وحضارة في الطب والصناعة والتقنية وغيرها. إن المصلحين يريدون أن تكون الأمة المسلمة أمة رائدة قائدة، حتى تقود البشرية بأسرها إلى الخير والسلام، يريدون أن تكون لهم الريادة والصدارة في الفكر وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع وفي الصناعة، وفي الفضاء وفي كل المجالات. إن الحضارة الكاملة بهذا المفهوم نحن أول من يدعوا لها، والدليل على ذلك أنك ترى الصالحين بحمد الله، سباقون إلى كل مجال، في جميع أنحاء العالم. أما أولئك العابثون اللاهون فهمهم إشباع الغرائز والحاجات الشهوانية، ولم يشتهر منهم إلا لاعب أو مطرب أو مغنٍ أو ممثل أو ملحن أو راقص... أما الحضارة التي يدعى إليها كنموذج، فإنها حضارة الغرب، فليست عند المسلمين بحضارة كاملة المعنى! إنها في الحقيقة انحطاط وارتكاس في الحضيض في كثير من الجوانب، إنها حضارة ناقصة عرجاء، لأنها تمجد الصناعة والآلة، وتمسخ العقائد والأخلاق. إن المصلحين لا يرون الحضارة عبارة عن كتلة طين أو نفقاً أو جسراً، أو صناعة أو صاروخاً أو بندقية، أو ناطحة سحاب أو قصراً مشيداً، بل يرون الحضارة بمفهوم أشمل وأكمل، تشمل المادة والروح والأخلاق والقيم، حضارة تنفع الناس في الدنيا، وتعلي راية الحق، وتثمر جنة ورضا في الآخرة. أما هذه الحضارة المادية فلم تنفع من سبقهم من أمم... لقد أنكر الله عليهم ذلك، وعذبهم بسبب نقص حضارتهم واقتصارها على الناحية المادية وإهمالهم لجوانب الدين والأخلاق. ومما يلفق ضد رجال الحسبة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمصلحين، إنهم لا يريدون الرفاهية، وإنهم ضد الملاعب وأماكن الترفيه، وإنهم يريدون أن يحجروا على الأمة وعلى المجتمع. وهذا وأيم الله كذب وافتراء صارخ. إن المصلحين لا يمانعون، بل يرون أن المجتمعات المسلمة لها حق في الترفيه المنضبط، وفق تعاليم كتاب الله، وسنة رسوله"صلى الله عليه وسلم". أنهم لا يمانعون ممارسة الرياضة، لكن لا تعطى أكبر من حجمها، ولا تعتبر غاية تفسد عقول الشباب وأخلاقهم... وتبدد فيها أموال الأمة... وتضيع فيها أوقاتهم... وتصرف بها اهتماماتهم عن الاختراعات والإبداعات. إنهم يدعون إلى الرياضة التي تنشط النفس وتنمي العقل وتعد الجسم لطاعة الله والدفاع عن دينه وبلده، إنهم لا يمانعون من وجود المنتزهات والحدائق، لكن مع توافر الحشمة وفصل الرجال عن النساء، أما السواحل والمنتجعات وغيرها، فلا يمانعون في الترفيه، إذا التزم الناس بتعاليم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما أن يجعل الترفيه ذريعة إلى الفساد والإفساد كما يريده المبطلون، وسيلة إلى إفساد الشباب، وإلى شغلهم عن قضاياهم، وتبديد الثروات، والعري والتجرد، فهذا ما لا يرتضيه مسلم مؤمن عاقل، إن المصلحين يرون أن يبنى للأمة المسلمة اقتصاد قوى يكفيها عن الاحتياج للغرب والشرق، ويلبي طموحاتها التنموية، ويلبي رغبتها التقدمية والصناعية. محمد بن حجي السبيعي العنزي ? الرياض محام متدرب