ينتظر المهتمون بالشأن القضائي والقانوني في المملكة من قضاة ومحامين ومستشارين قانونيين هذه الأيام صدور نظام القضاء، ونظام ديوان المظالم اللذين انتهى مجلس الشورى من مناقشة مشروعيهما منذ فترة وجيزة، واللذين تم إعدادهما بناء على الأمر الملكي الصادر منذ قرابة السنتين، الذي يقضي بالموافقة على الترتيبات التنظيمية لأجهزة القضاء، وفض المنازعات، واستكمال الإجراءات النظامية لتعديل الأنظمة، وهو يعد أحد أبرز بوادر الإصلاح القضائي، الذي يأتي ضمن منظومة إصلاح شامل تشهدها البلاد. وبحسب ما استطعت الاطلاع عليه من مواد النظامين، فإن الملاحظ أن هناك تغيرات جذرية سيشهدها القضاء في المملكة، مثل وجود المحاكم المتخصصة سواء كانت تجارية، أو عمالية، أو جزائية، وزيادة درجات القاضي لتصبح على ثلاث درجات ابتداء بالمحاكم الابتدائية، ثم محاكم الاستئناف التي تتم فيها إعادة نظر القضية بحضور أطرافها، بحيث يكون قضاتها قضاة موضوع، خلافاً لما هو عليه الوضع الحالي، إذ يقتصر دور قضاة الدرجة الثانية ? وهم قضاة التمييز ? على النقض فقط، إلا في حالات محددة. أما في النظامين الجديدين فإن محاكم الاستئناف تأخذ دوراً مختلفاً عن دور التمييز في الوقت الحالي، كما أن التنظيم الجديد ستكون فيه درجة ثالثة للتقاضي، وهي المحكمة العليا التي تختص بالنظر في الاعتراضات على الأحكام التي تصدرها محاكم الاستئناف في حالات حددها النظام، ولا شك أن في هذا التنظيم الجديد زيادة في الاحتياط لمصلحة أطراف الدعوى. وبشكل عام فقد جاء النظامان متماشيين مع كثير من التطوير، وتم تلافي كثير من القصور، والثغرات الموجودة في النظامين السابقين، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود بعض الملاحظات التي كنا نأمل بأن يتم الانتباه لها أثناء إعداد مشروعي النظامين، أثناء مناقشة مشروعي النظامين في مجلس الشورى ? والذي لم يجر أي تعديلات تذكر عليها ? أثناء المناقشة وأثناء استعراض المواد التي تتعلق بالشروط الواجب توافرها فيمن يعيّن في السلك القضائي، اعترض بعض أعضاء المجلس على قصر تولي القضاء على خريجي الشريعة فقط، وعدم فتح الباب لخريجي القانون لتولي القضاء، وطالب عدد كبير من الأعضاء بفتح الباب لخريجي القانون، بل أن أحد الأعضاء اقترح أن يكون القضاة في المحاكم التجارية من خرجي كلية التجارة، واستطاع المعترضون على هذه المادة إقناع الكثير من الأعضاء بوجهة النظر هذه، فقد كادت المادة التي تشترط أن يكون القاضي من خريجي كلية الشريعة أن تسقط عند التصويت عليها، إذ لم تفز إلا بفارق صوتين فقط. ومن وجهة نظري أن تعيين من درس القانون فقط قاضياً أمر غير مناسب، كما أن تعيين من درس الشريعة فقط غير مناسب كذلك، فدراسة القانون وحده غير كافية لتولي مهنة القضاء في دولة جعلت الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أنظمتها، بل أن كل مادة في أي نظام أو لائحة تخالف الشريعة الإسلامية تعد باطلة كما تقضي به المواد 1،7، 46، 48، من النظام الأساسي للحكم، وبهذا فان الشريعة الإسلامية وأحكامها ونصوصها هي بمثابة الدستور في السعودية، وإذا كان الأمر كذلك، فان تعيين قضاة لم يدرسوا الشريعة الإسلامية أمر لا يخدم هدف تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ من الصعب على قضاة لا يلمون بأحكام الدستور وقواعده أن يقوموا بدورهم كقضاة على الوجه المطلوب، لاسيما ان الإلمام بأحكام الشريعة الإسلامية ليس أمراً سهلاً، إذ يتطلب كثيراً من الجهد والوقت والقراءة، وفي المقابل فان تعيين من درس الشرعة فقط ولم يدرس القانون ? كما هي حال كثير من القضاة في الوقت الحالي ? هو أمر ليس في مصلحة القضاء أيضاً، فمن المعلوم أننا نعيش في دولة اقتصادية حديثة، يحكمها القانون، وتنظم شؤونها بأنظمة ولوائح، وهي أحد أكبر الاقتصاديات في المنطقة، بل ربما في العالم، وهي ليست بمعزل عن عالم يتقارب ويتداخل شيئاً فشيئاً بفعل العولمة أو"التعولم"بعبارة أصح، وبفعل الاتفاقات والمعاهدات والمنظمات الدولية، والتي من أهمها منظمة التجارة العالمية، فلم يعد أثر النظام القضائي مقتصراً على شعب الدولة فقط، بل أصبحت شعوب دول أخرى تتأثر بالأنظمة المعمول بها في البلد، وبالنظام القضائي فيه، وذلك من خلال استثمارات ورؤوس أموال أجنبية، ما يصبح معه التعامل بعقلية القرون الوسطى من جانب البعض أمراً غير مقبول مطلقاً، إذ أن ذلك يشكل عاملاً طارداً للاستثمارات، ورؤوس الأموال الأجنبية، إضافة إلى أثره على حقوق أصحاب البلد نفسه من مستثمرين ومواطنين عاديين، وذلك أمر لا يتوافق مع السياسة الاقتصادية الحالية للسعودية. إننا في الوقت الحالي لا نشتكي بشكل كبير من عدم وجود الأنظمة، فمع أن بعضها بحاجة للمراجعة والتطوير، إلا أن تلك ليست مشكلة أساسية من وجهة نظري، فنحن لدينا مجموعة من الأنظمة المثالية والنموذجية، ولكن السؤال المهم هو: هل تفعل هذه الأنظمة؟ ما فائدة وجود نظام مرافعات ونظام محاماة ونظام إجراءات جزائية وغير ذلك من الأنظمة إذا كانت لا تلقى الكثير من الاهتمام، إذ تعامل كقواعد استرشادية، أو ربما تهمل بالكلية! إن أحد أهم أسباب هذا الوضع هو عدم تأهيل القضاة القانوني المناسب حتى وجد بعض القضاة الذين لا يعرفون أهمية وجود أنظمة ولوائح يعرف بها المترافع حقوقه وواجباته قبل ان يدخل في الخصومة... كيف نطالب قاضياً ان يعمل بالأنظمة ويطبقها التطبيق الصحيح، وهو لم يدرس تدرج الأنظمة، ومدى حجيتها، وكيفية العمل أثناء تعارضها، وما نطاق تطبيقها، وكيفية تفسيرها، وما هي القواعد الآمرة والمفسرة، ومن له صلاحية إصدارها، إلى غير ذلك من مبادئ القانون، إن من الواجب أن يتم تأهيل القضاة تأهيلاً قانونياً شاملاً، من خلال دبلوم إلزامي لجميع القضاة قبل ممارسة العمل القضائي، ومن خلال دورات مكثفة يتم فيها تأهيل القضاة قانونياً، إضافة إلى توعيتهم بأهمية مراعاة القانون الأنظمة، وبذلك نسهم في تلافي وجود قضاة لا يعرفون كيفية التعامل مع الأنظمة، أو لا يكترثون بها ولا يعيرونها اهتمامهم... تلك فيما أظن أحدى الخطوات التي يجب اتخاذها حتى نصبح دولة يكون نظامها القضائي متطوراً بالقدر الموازي والمتوافق مع الواقع الذي نعيشه، ويعيشه العالم من حولنا. [email protected]