أولى نظام القضاء ونظام ديوان المظالم الصادران أخيراً نشر الأحكام القضائية أهمية أكبر، إذ ألزم النظامان بإنشاء مراكز فنية متخصصة لانتقاء الأحكام التي تشكل مبادئ قضائية وتصنيفها ونشرها، وذلك لما لتلك الأحكام من أهمية في إعطاء تصور عن توجه القضاء والمبادئ التي يسير عليها، فالأحكام القضائية الصادرة من المحاكم والجهات القضائية بشكل عام تعد ثروة حقوقية، إذ إنها تشكل الطابع العملي الحي للقانون، وهي التي تشكل مداه وأبعاده، فالقانون بمواده عبارة عن مادة خام خاملة، تصبح في حالها النشطة عندما تتحول إلى أحكام قضائية، فالأحكام المؤيدة من محاكم التمييز أو النقض التي يستقر عليها قضاؤها هي تعبير عن توجه القضاء وتوضيح للمنهج الذي يسير عليه أثناء فصله في المنازعات المعروضة عليه. وتسمى الأحكام التي تستقر المحاكم على الأخذ بها وبالأخص المحاكم العليا ومحاكم الاستئناف ? المبادئ القضائية: وللمبادئ القضائية أهمية كبرى سواء بالنسبة إلى المحامين والمترافعين أمام المحاكم، أم حتى بالنسبة إلى القضاة أنفسهم خصوصاً قضاة الدرجة الأولى، وذلك أن القوانين والأنظمة واللوائح وإن كانت هي المرجع في تقرير الحقوق وترتيبها، إلا أن تلك القوانين ? مهما تم الاجتهاد عند إعدادها ووضعها ومحاولة أن تكون شاملة ? إلا أنه قد يعتري بعض موادها إما الغموض والإبهام أو أن تكون قاصرة في بعض الحالات، بحيث يصبح هناك فراغ قانوني، وفي هذه الحال فإن القاضي والمحامي يستأنس بالرجوع للمبادئ والأحكام القضائية السابقة لحالات مشابهة. والمبادئ القضائية تنشأ - كما سبقت الإشارة - بسبب وجود مواد مبهمة أو حالات لم يتم تناولها عند سن القانون أو النظام، وفي هذه الحال فإن القاضي يحاول أن يجد تفسيراً مناسباً للنص الغامض، أو أن يبتدع حكماً جديداً للحال غير المتناولة بالتنظيم، مستعيناً في ذلك بالعرف وبمبادئ القانون الطبيعي ومبادئ العدالة والحالات المشابهة، محاولاً الوصول إلى حكم عادل ومرض. ومما يضاعف من أهمية المبادئ القضائية لدينا في المملكة على وجه الخصوص ? هو غياب القوانين المنظمة لمعظم الحقوق في ظل عدم وجود تقنين للفقه الإسلامي، إذ إن مجال الاجتهاد مفتوح أمام القاضي ليحكم بما يرجحه من المذاهب الفقهية المختلفة، وكما هو معلوم فإن المذاهب والآراء والاجتهادات الفقهية كثيرة ومتنوعة ولا يمكن حصرها، بل هي متجددة ومجال الاجتهاد فيها مفتوح، والنصوص الشرعية من المرونة بحيث يمكن الاحتجاج بها لكثير من الأقوال والمذاهب، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن القرآن حمال أوجه"، لذلك فإن المبادئ القضائية تصبح ضرورة في هذه الحال حتى يعرف المترافع أمام القضاء ما هو التوجه الذي يسير فيه القاضي، ما يمكنه من المطالبة بحقوقه في ضوء الأحكام السابقة. ومع أن السوابق والمبادئ القضائية غير ملزمة، كما هو المعمول به في القضاء الفرنسي والذي تسير على خطاه معظم الدول العربية خلافاً للقضاء الإنكليزي الذي يعتبر المبادئ القضائية قواعد ملزمة مع أنها ليست ملزمة من الناحية النظرية، إلا أنها تعبر في الغالب الأعم عن توجه القضاء، وذلك بفضل وجود درجات للتقاضي، ذلك أن محاكم التمييز أو النقض تقوم بنقض الأحكام التي لا تتوافق مع المبادئ التي قررتها، ما يجعل قاضي الدرجة الأولى يراعي ذلك في القضايا المعروضة أمامه، بحيث لا يخرج عمَّا قررته المحاكم الأعلى منه درجة، حتى لا يعرض أحكامه للنقض، ما يضفي على المبادئ القضائية المستقرة صفة القواعد الملزمة، مع أن بإمكان دوائر النقض العدول عن اجتهاداتها السابقة، والمبادئ التي سبق وقررتها، بحيث تقرر مبادئ جديدة، ويتم ذلك وفق آلية يحددها النظام. وبناء على أهمية وجود مبادئ قضائية يرجع إليها القضاة والمترافعون، فقد ألزمت أنظمة القضاء الجهات القضائية بنشر الأحكام القضائية التي تشكل مبادئ القضاء وفهرستها ونشرها، بحيث يسهل الرجوع إليها لمن يحتاج إليها، وقد أولى نظاماً القضاء وديوان المظالم الجديدان الصادران أخيراً نشر الأحكام القضاء أهمية أكبر، إذ أوكل تصنيف الأحكام ونشرها لمراكز متخصصة تنشأ في وزارة العدل وديوان المظالم، فقد نص نظام القضاء الجديد في المادة 71 الفقرة الثالثة على الآتي: "ينشأ في وزارة العدل مركز للبحوث ويؤلف من عدد كاف من الأعضاء المتخصصين لا يقل مؤهل أي منهم عن الشهادة الجامعية، ويتولى نشر الأحكام القضائية المختارة بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء"، كما نص نظام ديوان المظالم الجديد في مادته 21 على الآتي: "يكون في الديوان مكتب للشؤون الفنية من رئيس وعدد من القضاة والفنيين والباحثين، يختص بإبداء الرأي وإعداد البحوث والدراسات وغير ذلك من الأمور التي يطلبها منه رئيس الديوان، ويقوم المكتب في نهاية كل عام بتصنيف الأحكام التي أصدرتها محاكم الديوان ومن ثم طبعها ونشرها في مجموعات ويرفع نسخة منها مع التقرير". ومع أهمية تلك النصوص في النظام القضائي الجديد، إذ إنها جاءت مفصلة وموضحة لآلية نشر الأحكام بشكل اكبر، إلا أن النص الآمر بنشر الأحكام موجود في أنظمة القضاء السابقة، فقد جاء في المادة 89 من نظام القضاء السابق ما نصه: "تشكل بوزارة العدل إدارة فنية للبحوث تؤلف بقرار من وزير العدل من عدد كاف من الأعضاء لا يقل مؤهل أي منهم عن شهادة كلية الشريعة ويجوز أن يختاروا عن طريق الندب من القضاة وتتولى هذه الإدارة المسائل الآتية". وذكر في أولها "استخلاص المبادئ التي تقررها محكمة التمييز في ما تصدره من أحكام أو المبادئ التي يقررها مجلس القضاء الأعلى وتبويبها وفهرستها بحيث يسهل الرجوع إليها". كما نصت المادة 47 من نظام ديوان المظالم القديم على ما يأتي: "يرفع رئيس الديوان في نهاية كل عام إلى الملك تقريراً شاملاً عن أعمال الديوان متضمناً ملاحظاته ومقترحاته كما يقوم في نهاية كل عام بتصنيف الأحكام التي أصدرتها دوائر الديوان ومن طبعها ونشرها في مجموعات، ويرفق نسخة منها مع التقرير"، ومع وضوح هذين النصين وصراحتهما ومع أن نظام القضاء القديم صدر في عام 1395ه ونظام المظالم القديم صدر في عام 1402ه، إلا انه لم يتم تفعيل المواد المتعلقة بوضع المبادئ ونشرها، فلم تقم أي من الجهتين بإصدار أية مبادئ اقتصادية أو أحكام منشورة، حتى صدر قرار مجلس الوزراء في عام 1423ه والقاضي بنشر الأحكام النهائية المختارة، وصدرت بعد ذلك تصريحات من وزير العدل ورئيس ديوان المظالم بأنه سيتم إصدار مدونة بالأحكام القضائية تنفيذاً لهذا القرار، وكأن النظام السابق لا يحتاج إلى تنفيذ! مع أن هذا القرار لا يعدو كونه قراراً كاشفاً لما نص عليه النظام، وليس قراراً منشئاً لحكم جديد، ومع وجود تلك التصريحات إلا انه لم يتم إصدار أي شيء من ذلك حتى مطلع العام الحالي، إذ وجدت النور أولى تلك الإصدارات، فقط طبعت وزارة العدل الإصدار الأول من مدونة الأحكام القضائية وقد اتضح ما بذلته اللجنة التي قامت بأعداده من جهد، فقد جاءت المدونة جديدة بشكل عام، إلا انه يؤخذ عليها قلة الأحكام التي جاءت فيها، فمع وجود فريق من تسعة أشخاص ما بين مشرفين ولجنة علمية وفريق علمي عملوا لأكثر من سنة، إلا أن الأحكام المنشورة لم تتجاوز 50 حكماً، وهو عدد قليل جداً بالمقارنة لما يراد من اجله إصدار تلك المدونات، كما يؤخذ على هذه المدونة أن الفريق المعد ذكر في المقدمة انه يعتمد في النشر على قرارات مجلس القضاء وعلى الأحكام القطعية ومن ضمنها الأحكام التي اكتسبت القطعية لقناعة أطرافها بالحكم، والحقيقة أن مثل تلك الأحكام لا يصح أن توصف بالمبادئ القضائية وليست مناسبة للاختيار من ضمن الأحكام التي تنشر، إذ إن تلك الأحكام لم يستقر القضاء بها، إذ لم يتم تأييدها من قضاة التمييز ولم يتم فحصها وتمحيصها، فهي إذاً عرضة للنقض عند عرضها على قضاء التمييز. أما ديوان المظالم فإن لديه لجنة تعكف الآن على استخلاص المبادئ القضائية لدوائر التدقيق الإداري ونشرها، ونتمنى أن ترى تلك المبادئ النور قريباً، إذ انه لن تكون هناك مبادئ قضائية مستقرة ما لم يكن هناك تدوين للمبادئ، وعلى افتراض وجود تلك المبادئ فإنه يصعب معرفتها من القاضي أو المحامي وذلك لعدم طبعها ونشرها، ولا يخفى ما في ذلك من تضييع لجهد القاضي والمحامي، إذ لو كانت تلك المبادئ موجودة وفي المتناول لتم مراعاة ذلك من قضاة الدرجة الأولى ولتم تلافي كثير من نقض الأحكام التي يأخذ بإعادة النظر فيها وقتاً طويلاً كان بالإمكان عدم اهداره. فمع انه ربما يلتمس العذر لتلك الجهات القضائية في تأخرها بإصدار المبادئ لكثرة العمل لديها، وعدم وجود عدد كاف من القضاة لتولي الفصل في القضايا، فضلاً عن إعداد المبادئ، لذلك فإنني اقترح أن يتم فتح المجال لمن أراد من القضاة أو المحامين والباحثين لاستخلاص المبادئ وتبويبها ونشرها لحسابه الخاص، كما هو الحال في كثير من الدول، ففي ذلك اختصار للوقت ومساعدة للجهات القضائية في رفع بعض الحمل الملقى على عاتقها. ولقد كنت أتمنى أن يتم النص في نظامي القضاء وديوان المظالم الجديدين على إنشاء دائرة لتوحيد المبادئ كما هو معمول به في دول أخرى، ويكون دورها توحيد المبادئ عند اختلاف دوائر النقض في ما بينها، وهو أمر حتمي الوقوع مع أن الحاجة لذلك ستكون خطوة تالية لنشر المبادئ التي نتمنى أن يتيسر لكل محتاج الحصول عليها، وأن تكون من الشمول بحيث تحقق الغرض من إصدارها، ويبقى الأمل أن تكون تلك المبادئ القضائية خطوة أولى ونواة لتقنين شامل لكل فروع القضاء لتكون الصورة أمام القاضي والمترافع أجلى وأوضح. * أكاديمي في جامعة الملك سعود [email protected]